□بقلم عبد الجليل المسعودي
ودّعنا اليوم، على مشارف عام جديد، الصديق أحمد حاذق العرف، الناقد والمفكّر والفيلسوف.
لم يكن كل ذلك وحسب. بل كان إلى جانب كلّ ذلك إحدى شخصيات الحياة الثقافية التونسية، لا يختلف كثيرا عن شخصيات الأعمال المسرحية التي كان يجتهد في نقدها وتفكيك عناصرها ورموزها والحكم عليها-وقليلا لها- بدقّة وصرامة ودون محاباة، ابدا.
كان العرف كما كنا نناديه اختصارا، أو “العريّف” ملاطفةً، واضحا في ما كان يكتب، وبنفس القدر وفي ذات الوقت، كان رحمه الله سِريّا، مُلبسًا، كتوما، يصعب الوصول إليه. ربّما السبب في ذلك كان الخوف من القمع والملاحقة اللذين سيطرا لعقود طويلة على مثقفي اليسار منذ خمسينات القرن الماضي.
العرف كان ناقدا جيّدا للحياة الثقافية، ذا قناعة وإقناع. كتب في أهم الصحف والدوريات دون التزام بالخطّ التحريري لأي منها ولم يثبت الاّ في جريدةالشعب التي وجد فيها ضالّته باعتبار تحرر خطابها من الهيمنة الايديولوجية مع انصهارها في قلب المشغل الجماهيري. كان عصاميّا، ذكيّا وحدْسيّا. ورغم أنه كان أحادي اللغة، فإنه لم يكن أحادي المعرفة، ولا شكّ أن انتماءه الماركسي فتح له آفاق التثقّف ومكّنه من آلايات وأدوات التحليل والنقد.
لكن احمد حاذق العرف كان إلى انطونيو غرامشي أقرب منه إلى كارل ماركس، مقاربة وتصوّرا للعمل الثقافي. كانت الثقافة بالنسبة إليه هي المركز وهي التي تحرّك الإنسان، وليس الإقتصاد، وتدفعه إلى التجاوز والتحرر. لذلك كان حاضرا في كل المجالات والفضاءات حيث يتوسّم الإبداع بمختلف مجالاته وانماطه مع ميلٍ معلن للمسرح باعتباره فنّ اللقاء المباشر والممارسة الفعلية (البراكسيس) للعملية الإبداعية والتطلّع إلى المستقبل المتجدد.
تعرّفت إلى العرف في مطلع السبعينات، زمن بروز حركة الطليعة الأدبيّة وبداية تبلور المشروع الثقافي والابداعي الوطني قبل أن تصيبه انتكاسة 26 جانفي 1978. كنت انا وثلّة من الأصدقاء من بينهم الناقد محمد مومن والشاعر محمد العوني نقضّي الساعات الطوال في دهليز دار الثقافة ابن رشيق “نعيد صياغة العالم”، نتحاور حول مسرحية أو ديوان شعر أو فيلم تونسي جديد، وكنّا ننتظر تدخّل أحمد حاذق العرف الذي كان يفاجئ الجميع بأفكار ورؤى المثقّف العضوي الرافض أبدا للعادي والمعاد والمعتاد.
لقد فقدت الساحة الثقافية بغياب العرف أحد اهمّ روادها في مجال النقد. وامّا شارع بورقيبة فسيكون أكثر هَجْرًا بعد ان خلا من خياله الصغير المتسكّع.
رحمك الله يا “عريّف”.