المهاجرون التونسيون، هذه الجالية العظيمة التي لا يمكن أن تسقط سهوًا من سطور التاريخ المكتوب، لأنها عرفت كيف تحفر في متون صفحاتها وحواشيها نضالات وتحديات وانجازات تراكمت فيها بكل بهاء، بعضها انتزع منها بالقوة في العشر سنوات العجاف بعد 2011، ورغم قسوتهم لم يقدروا على التهامها كلها، فلقد بقي ما يكفي من أجيال الهجرة، ليذكّروا بأمجاد الجالية، لعلهم يتذكرون!.
يكفي ان يعلم الجميع ان الجالية اليوم تغيرت كثيرا من يد عاملة بسيطة غداة الاستقلال الى جالية متنوعة الاختصاصات والمجالات ساهمت وتساهم في التنمية بدون كلل وبدون انقطاع، فتحويلات التونسيين بالخارج حاليا بلغت إلى موفى شهر سبتمبر المنقضي ما يعادل 6.2 مليار دينار من العملة الأجنبية مقابل 4.4 مليار دينار في الفترة ذاتها من السنة الماضية، وهو ما يعني ان تحويلات التونسيين بالخارج سجلت خلال العام الجاري زيادة بأكثر من 40 % وهو ما كان له تأثير إيجابي كبير على الاقتصاد التونسي عامة وميزان الدفوعات بالخصوص بعد تسجيل انحفاض كبير في عائدات السياحة التي بلغت 1.8 مليار دينار الى موفى شهر سبتمبر 2021.
وهذا رغم الانكماش الاقتصادي العالمي جراء جائحة كورونا، ولكن الاوضاع المزرية التي تعيشها بلادنا وخاصة غلاء المعيشة حتّمت على أعضاء جاليتنا بالخارج الترفيع في حجم تحويلاتهم على حساب مدخراتهم العائلية، بدون ان تمد لهم الدولة يد المساعدة بالتوجيه والتأطير ولا بالتحفيز والترغيب، ولا بالعرفان بالجميل.
بل قل كلما تدخلت حكومة من الحكومات بعد 2011 الا وألغت بعض الامتيازات التي افتكتها الجالية بسنوات من النضال مثل الـ FCR او بترفيع الرسوم واسعار الوثائق كجواز السفر وبطاقات القنصلية والمضامين وغيرها من الوثائق الادارية المستخرجة من القنصليات او تذاكر السفر التي اصبحت مشطة للغاية.
حركة خطيرة لم يفهمها أحد، تفاصيلها تتمثل في الثلاثي العجيب المتألف من ديوان التونسيين بالخارج ووزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة الشؤون الخارجية والتونسيين بالخارج! بالاضافة الى متدخلين آخرين كوزارة الثقافة والوزارة التعليم واتحاد الشغل، الخ..
تقاطع بعض المصالح احدث زوبعة بين المتدخلين بنتيجة حتمية هو انكماش الديوان على نفسه والاكتفاء بدفع الاجور لاعوان دار التونسي بالعديد من البلدان، على حساب الانشطة الموجهة لاجيال الهجرة التي توقفت تماما، ماعدا انشطة لذر الرماد على العيون كالاحتفال بالعيد العالمي للمرأة او اعطاء شهائد شكر للتلاميذ الناجحين في الباكالوريا، على حساب الانشطة التي بعث من اجلها الديوان وهو التأطير والتدريس والترفيه ولم شمل اجيال الهجرة ..
كذلك ادارة تسميات الملحقين الاجتماعيين التي تأتي من كل حدب وصوب بنتيجة كارثية على الجالية التي اصبحت مهمشة نظرا لكون الملحقين الاجتماعيين يصلون الى مقراتهم فارغي الأيدي لا يتقنون لغة البلد ولا يعرفون كيف يتحركون للقيام بأنشطتهم كحل المشاكل الاجتماعية التي تعترض الاسر التونسية ومنها بالاساس الخلافات الزوجية وانعكاساتها على الابناء القصّر، الذين يتم افتكاكهم في حالات معينة وتسليمهم لعائلات اخرى.
كذلك زيارة السجون والمستشفيات وتسفير المتوفين، وتفقد مراكز الايواء المؤقت ، وهذا تحت إمرة القناصل لان جل الملحقين الاجتماعيين يشتغلون داخل القنصليات بجواز سفر احمر صالح لمهمة بالخارج.. وعليه غير معترف بهم في الدولة التي يعملون بها ويتكفل القناصل بالمراسلات للجهات الايطالية ليأخذوا لهم مواعيد او زيارات.
والغريب في الامر ان هذه الاطارات تأتي من ادارات مختلفة ورواتبهم تفوق رواتب الدبلوماسيين في كثير من الاحيان ويتمتعون بنفس الامتيازات تقريبا!! ثم ما هي الفائدة التي جنتها الجالية من الحاقها بوزارة الخارجية لا شيء يذكر!!
لم نشاهد لقاءات مع الوزير خلال زياراته المتعددة للخارج ولا اي مبادرات أخرى، صحيح انه في بعض الاحيان يجتمع بالديبلوماسيين وبمنظوريه لا غير..
الجالية اليوم تحت اشراف وزارة الشؤون الخارجية، بينما وزارة الشؤون الاجتماعية تشرف على ديوان التونسيين بالخارج الذي يشرف بدوره على الجالية بنتيجة صفرية، فكيف تحل هذه المعضلة؟!
الحل الواقعي جدا هو رفع اليد عن الجالية لا وزارات ولا دواوين ولا انشطة لم تعد تجدي فيجب قلب الاوضاع الحالية بخلق نواة جديدة تتمثل في اتحاد الجاليات التونسية او اي تسميات اخرى، تكون مهمته اجتماعية اقتصادية ثقافية سياحية وترفيهية وربط الصلة بين الأجيال الجديدة ووطنهم.. موضوع للنقاش.
فما أحوجنا لأناس يفهمون ان الوظيفة ليست غنيمة وان الواجب والمسؤولية يحتمان على اي كان العمل بضمير يعني أن يخاف الله ويتقيه وألا يعمل فقط لأجل كسب المال والامتيازات وكسر الآخرين..
بقلم: الحبيب المستوري – روما