نجح حيث فشلنا: دزموند توتو رجل المصالحة الذي كان يحبّ و يضحك و يبكي

بموته امس الاحد 26 ديسمبر، فقدت الانسانية رجلا من أعظم رجال هذا العالم.

‏انه دزموند توتو كبير الأساقفة في جنوب افريقيا و الذي اقترن اسمه بالكفاح ضد التمييز العنصري اوما عرف بالابرتهايد و ضد الجهل و التعصب بكل انواعه و تلوّناته، و كانت شهرته تعادل شهرة الزعيم نلسون منديلا.

‏توفي دزموند توتو عن عمر 90 عاما شقّ خلالها قرنين من الزمن قضاها “يحارب و يضحك و يبكي”.

كان مكتوبا على هذا الرجل ان ياتي الى هذا العلم مرتديا لزي المقاتل.

فقد واجه امراض الشلل، والسلّ، و السرطان، و البروستاتا.

و واجه التسمم بالغاز و القي به مرات في غيابات السجن حيث عرف مرارة العزلة والانفراد، وكان يخرج منتصرا في كل نزالاته. غير ان حربه الاقوى والاشرس شنها ضد التمييز العنصري الذي كان مسلطا على ابناء شعبه من الاغلبية السوداء في جنوب افريقيا و ما يستتبع ذلك من ظلم و احتقار و تفقير و تجهيل لابناء البلد الأصليين. 

حوّل دزموند توتو كل مراحل حياته الى محطات نضال ضد الشر الاكبر الذي كان يمثله التمييز العنصري. فبعد اتباعه مسار ابيه و اعتناق مهنة التدريس، استقال سنة 1957 احتجاجا على مستوى التعليم المقدم للسود. و في السنة الموالية اصبح أُسقفا يتمتع باهتمام متزايد في العالم ولم يتردد في المطالبة بمقاطعة نظام بريتوريا العنصري اقتصاديا و الضغط عليه بكل الوسائل السياسية.

و مما زاد من وقع و تاثير مواقفه حصوله سنة 1984 على نوبل للسلام التي فتحت له الباب على مصراعيه لتوجيه ضربات مدمرة لجدار التمييز العنصري.
  رغم اسهامه الكبير في هزم التمييز العنصري في بلاده فان التاريخ سيحفظ لدزموند توتو خصوصا دوره الحاسم على رأس لجنة الحقيقة و المصالحة التي أمر بتشكيلها الرئيس نلسون مانديلا للنظر في جرائم الابرتهايد . اظهر في هذه المسؤولية الصعبة من نبل النفس و رفعة الاخلاق و التشبث بقيم التسامح و العفو ما جعله يحظى باعتراف و احترام كل شعوب العالم و يصبح ابدا ايقونة الغفران و نبذ الكراهية و رفض الردود الانتقامية، وهي المواقف الشجاعة التي وضعت جنوب افريقيا في اتجاه التاريخ و طي صفحة الماضي بآلامه و مآسيه.

فبعد ان كابدها على ارض الواقع عاش دزموند من جديد تراجيدية بني جلدته من خلال جلسات استحضار الجرائم، و يذكر المؤرخون انه شوهد اكثر من مرة وهو  يبكي اثناء جلسات اللجنة.

و ما من شك ان خبر موت دزموند توتو الذي ياتي و تونس التي عرفت ثورة ابهرت العالم بسلميتها  و بمستواها الحضاري العالي تغرق في اخطر ازمة سياسية تهدد مشروعها الديمقراطي بل و وجودها و تواصلها.

و ما من شك كذلك ان من اسباب هذه الازمة ذلك الفشل الذريع الذي مُني به مشروع الحقيقة و الكرامة التي اوكلتْ لها مسؤولية تحقيق اهداف الثورة و ضمان مسار الانتقال الديمقراطي فظهر اصحاب المسؤولية دون مستوى الموعد التاريخي فكانت الخيبة التي فجرت الانقسام و الكراهية.

ان موت دزموند توتو يعيدنا الى نقطة فشلنا و يدين من تحملوا امانة هيئة الحقيقة و الكرامة في تونس ويتحدى ضمائرهم.

لم يكن مفقود الحقيقة و المصالحة الجنوب افريقي رجل مصالح و لا حسابات، و لم يكن يخاف احدا أو شيئًا، ولم يكن يهمه غير الاصداع بقول الحق.

من اجل ذلك ندد بتفشي الفساد داخل حزب المؤتمر الحاكم واعتبر هذه الظاهرة أخطر على البلاد من التمييز العنصري.

من اجل ذلك ايضا شجب سنة 2002 سياسة اسرائيل تجاه الفلسطينيين و قارنها بالابرتايد الذي سُلّط على سود جنوب افريقيا.

من اجل ذلك كذلك طالب سنة 2007 الامريكي بوش و الانجليزي بلير  بالاعتذار على الحرب التي قاداها على العراق. 
كان دزموند توتو رجل كفاح و ايمان.

وكان ايضا رجلا مرحا يحبّ الضحك و يرى فيه سلاحا ناجعا ضد التسلط.

طلب ان يُنقش على ضريحه:”كان يحبّ، ويضحك و يبكي”.