
قد لا يقدّر الكثير منا معنى وحقيقة تشابك الدول والشعوب وتداخل وترابط مصالحها الحيوية في عالمنا المعولم.
سوء تقديرنا هذا يجعلنا احيانا لا نعطي المشاكل ابعادها الحقيقية ويدفعنا احيانا اخرى الى التقليل من مخاطرها وتاثيراتها واهمال التفكير في تشعباتها و، بالنتيجة، عدم الاستعداد والاعداد لها.
وحيث ان التاريخ كما يقول البعض اعادة مستمرة او، في رواية اخرى، بداية ابدية، فقد يجدر التذكير لمن يرى الحرب الدائرة في اوكرانيا كما لو كان مجرد متفرج يشاهد فيلما هوليوديا ليصفّق في النهاية للمنتصر، انه في سنة 2010 ضربت موجة حرارة شديدة في روسيا تسببت في جفاف كانت نتيجته المباشرة تراجع كبير في محصول الحبوب.
حفاظا على حاجة الشعب الروسي من هذه المادة الاستراتيجية قررت السلطات الروسية حظر البيع منها و ومنعت تصديرها الى الاسواق العالمية كما كان الشأن منذ عقود طويلة وخصوصا منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.
ماذا كانت نتيجة قرار الحظر؟ ازمات وانتفاضات في دول عديدة في أفريقيا وآسيا وبصورة ادقّ في شمال افريقيا والشرق الاوسط.
بل هناك من الدارسين من يذهب الى التاكيد ان من اسباب اندلاع ثورات “الربيع العربي” الاساسية ذلك القرار الروسي الذي ألهب اسعار الحبوب في الاسواق العالمية وأثقل كاهل ميزانيات الدول المستوردة لهذه المادة ومنعها من الاستثمار في قطاعات تنموية منتجة، ما عمّق ازمة البطالة وزاد من ووطأة الضغوط الاجتماعية.
من المهم ان نعرف ان معدل انتاج روسيا من الحبوب يبلغ سنويا ما بين 40/35 مليون طن، في حين يصل الى 18 مليون طن في اوكرانيا.
عالميا يصل معدل انتاج الحبوب بين البلدين 20%. اما انتاجهما من زيت عبادة الشمس فيبلغ 80% عالميا وهذا يعطينا صورة لقيمة واهمية التحدي الذي سيطرح قريبا والصعوبات التي ستواجهها بلدان مثل تونس تعتمد على السوق الخارجية في توفير خبزها.
لقائل ان يقول إن هناك بلدانا اخرى لها قدرة تعويض الانتاج الروسي والاوكراني مثل الامريكيتين الشمالية والجنوبية،وكندا، وفرنسا.
هنا ايضا يجب التذكير بان العولمة التي تسهّل التقارب بين الدول والشعوب تلعب ايضا كمحرّك لتحديد أدوار القوى الاقتصادية و تقاسم المصالح بينها حسب نسبة الربح والخسارة.
قبل الحرب الحالية لم يكن لتلك الدول قدرة منافسة روسيا واوكرانيا في سوق الحبوب العالمية.
قد تكون قد تغير هذا الواقع لكن تعويض البلدين المتحاربين في مجال انتاج الحبوب يحتاج وقتا قد يطول وقد يقصر.
وحتى لو وقعت تسوية الخلاف قريبا ووضعت الحرب أوزارها فان اصلاح الطرقات في اوكرانيا واعادة بناء ما وقع هدمه من مطارات وموانئ تُستغلّ لايصال الحبوب سوف يستغرق هو الآخر وقتا سيكون طبعا على حساب استئناف الانتاج.
كل المعطيات تصب اذن في نفس الخانة وهو ان بلدانا كثيرة من التي تستورد الحبوب مرشحة لمواجهة صعوبات متفاوتة الخطورة في المستقبل القريب.
ولعل اولى هذه البلدان مصر التي يعتمد غذاء شعبها على الرغيف(العيش)وكذلك تركيا والمغرب و تونس واليمن واندونيسيا.
اما البلدان الاخرى المستوردة للحبوب مثل الجزائر ونيجيريا فان ارتفاع سعر الغاز والبترول سيساعدها على مواجهة الغلاء .
والسؤال: لماذا اصبحت تونس “مطمور روما”كما كانت تسمى، مهددة اليوم في خبز ابنائها ولم تنجح بعد 66 سنة استقلالا كاملة من ضمان امنها من الحبوب رغم ال500 الف هكتار التي تمتلكها الدولة؟
الجواب يعطيه صديقنا عبد الرحمان بوحريزي النائب السابق لجهة الكاف والعارف الجيد بواقع هذه المنطقة اذ يقول”اننا اليوم ندفع فتورة إهمالنا لثروتنا الفلاحية وتوجهنا لاختيارات اقتصادية خاطئة وتهميشنا لمسألة تطوير زراعة الحبوب في جهة الشمال الغربي الإستراتيجية والتي اصبحت منطقة حرمان ونزوح بامتياز”.
ويضيف السيد بوحريزي متسائلا:” هل كان تفقير الشمال الغربي وتهميشه وانكار خصوصيته الاقتصادية والفلاحية خصوصا نتيجة لسياسات فاشلة ام هدفا متعمّدا لابقاء هذه الجهة تحت السيطرة؟ اذا كان الجواب الاول فتلك مصيبة وان كان الجواب الثاني فالمصيبة أعظم”.
