
لم تنجب بلادنا عبقريّة فكريّة وثقافيّة واحدة منفردة لا غير لم يجد الزّمان بمثلها لا قبلها ولا بعدها عبقريّة أخرى حسب الأقوال الشائعة بل في الحقيقة أنجبت تونس مثقّفين كبارًا وعباقرة عظامًا على مرّ الحضارة التّونسية في مجالات فكريّة وثقافيّة عديدة ومختلفة كالإبداع الشّعري قديمًا وحديثًا وكالنّقد الأدبي وكالفقه المالكي وكالتّصوّف وكالعلوم مثل الرّياضيات والطّبّ وهندسة الرّيّ وتوزيع المياه والهندسة الزّراعية (النّخيل وشجر الزّيتون).
من بين هؤلاء المثقفين الكبار والعباقرة الّذين امتدّ إشعاعهم في عصرهم ومحيطهم ولكن أيضا انتشر ضوءه خارج تونس… نحو المغرب الأقصى وأقطار المشرق العربي، حتّى وفد إلى تونس هواة المعرفة ومحبّة العلم من الأندلس قديمًا لطلب المعرفة ومن بين أولائك التّونسيين الأفذاذ العلّامة والطبّيب العبقري ابن الجزّار الّذي عاش بين القرن العاشر والقرن الحادي عشر الميلادي في القيروان صاحب المؤلّفات الطّبيّة منها كتابه “كتاب الإعتماد في الأدوّية المفردة” وقد يكون هذا الكتاب هو عمله العلمي الأمثل والأسمى والأضخم. كسائر مؤلّفاته العلميّة (مثل كتابه “زاد المسافر وقوت الحاضر”) الّتي عرفت شهرة في المشرق والمغرب وأوروبا في عصره والعصور التّالية ولكن وقع ابن الجزّار وأعماله في نسيان بلاده بعد الشهرة.
وشرع المثقّفون في تحقيق أهم أعمال ابن الجزّار فانبرى الدّكتور إبراهيم بن مراد بصفة شخصيّة وبمبادرة معرفّية ليتصدّى للأمثل من أعمال ابن الجزّار العلميَّة وهو “كتاب الإعتماد في الأدوية المفردة”. والمحقّق الدّكتور إبراهيم بن مراد قد أنفق في تحقيقه وبحثه ودراسته واستقصائه سنوات طويلة دون كلل ولا ملل. ذلك أنّ أعمال ابن الجزّار ولا سيما قمّتها هذا الكتاب تستوجب الكثير من الصبّر والأناة والتّصميم على إصدار العمل في أبهى حلّة علمية كلّ ذلك فضلا عمّا توفّر للدكتور إبراهيم بن مراد من إتقان ومعرفة اختصاصات لغوية بالّلغة العربية وبعدد من الّلغات الأوروبية الحيّة اليوم والميتة. ويستدعي منا هذا المؤلّف الباحث العالم وهذا الكتاب العلمي التّونسي استكشافًا وتعليقًا يستغرق عشرات الصّفحات لأهمية ثقافة المحقق ولقيمة هذا الكتاب العام. وسنقوم بذلك كلّه في فُرَصِ قادمة ولا سيّما التّركيز على محتوى الكتاب.

ولعلّ هذه المبادرة الّتي اتّخذتها تونس للتّعريف بتراث أحد العباقرة التّونسيّين وهو ابن الجزّار إنّما هو بناء حضارة البلاد بما فيها تاريخها العلمي على أسس صحيحة.
ع.م
