
●الفنان محمد القرفي اختار منذ اكثر من 50 سنة طريق الالتزام الصعب بالموسيقى العربية المتطورة الراقية وعانى التجاهل والجحود…واليوم يتذوّق ثمرة صبره ومثابرتة
في ضوضاء ما اتفق على تسميته بالتظاهرات الموسيقية الوطنية، والتي كان آخر أهم مظاهرها “مهرجان الأغنية التونسية”، ذاك المهرجان الذي بلغت تلكلفته حوالي المليون دينار وتجندت لإنجاحه عديد المؤسسات من وزارة الشؤون الثقافية، والذي تجمّع له كلّ ما تعدّ العاصمة من صحافيين وإعلاميين لضمان إشعاعه، والذي لم يبق منه اليوم في الذاكرة غير صدى باهت وصورة شاحبة لا تختلف عما سبقته من أصداء وصور لمهرجانات الاغنية التونسية السابقة وإن تغيرت أحيانا تسمياتها وتبدلت بتبدّل وزراء الشؤون الثقافية. قلت، في هذه الضوضاء ظهر فجأة، وبعد غياب طويل دام سنوات، الفنان محمد القرفي ل”يغرّد خارج السرب”، كعادته، ويقدّم عرضه “زخارف عربية”.
أعرف محمد القرفي الموسيقار والفنان. الأستاذ الباحث الملمّ بتاريخ الموسيقات. والمبدع الملحن وقائد الأركاستر المتميّز. تعرفت إليه في منتصف سبعينات القرن الماضي عند تولّيه، على التوالي، إدارة الموسيقى بالإذاعة والتلفزة، وإدارة فرقة مدينة تونس الموسيقية، حين كان لمدينة تونس طموح الإسهام الفكري والفني الذي يميّز العواصم الكبرى. أذكر اني رافقت مسيرته الفنية لمدة لم تكن قصيرة، بالنقد وكذلك بالإنتقاد على صفحات “جريدة لاباس”. لم أكن دائمًا اتّفق مع اتجاهه الفني ولم اكن دائما من المصفقين لانتاجاته. بل انني كنت مع عدد من الأصدقاء المهتمين بالشأن الثقافي وقتئذ، ننظر إليه بعين الريبة والشك. كنا نراه موغلا في التأثر بمدرسة الرحابنة اللبنانية، وكنا نعتبر موسيقاه مستغربة، هندسية وجافة.
كنّا مخطئين.


مخطئين، لأن هذا الفنان، وككل فنان حقيقي كان مدركا قبل -وأكثر- من غيره من الفنانين لقيمة مدرسة الرحابنة اللبنانية وما قدمته منذ خمسينات القرن الماضي في سبيل النهوض بالموسيقى العربية كأسّ من أسس ثقافة التحرر والتأصيل والإنصهار ضمن موجبات الكونيّة التي كان يصبو إليها شباب العرب ما بعد موجة الاستقلال الوطني.
لم يكن القرفي يقف ضد ما يسمى ب”بالمسيقى الشرقية” كما هي متداولة عندنا اليوم، بل كان يرفض ذلك التكييف البافلوفي conditionnement pavlovien الذي فرضته -وتفرضه- وسائل الاتصال الجماهيرية من اذاعات وتلفزات وشرائط سينمائية على امتداد أكثر من قرن من الزمن على الذائقة العامة، وما ادّى كلّ ذلك إلى إقامة اوثان في مخيالنا الجمعي، جاعلة من التونسيين الشعب العربي الوحيد الذي يعيش على موسيقى غيره، حتى وإن كان “غيره” من اشقائه.
اليوم يؤكد محمد القرفي أنه كان على حقّ حين اختار أن ينحو نحو الرحابنة. ليس فقط لأن موسيقاهم حيّة ملتزمة بالتعبير عن الواقع المعيش، تتردد مع جميع مناحي الحياة، بل لأنها كذلك جيّدة الصنع، دقيقة ومفعمة بالطاقة.
ولقد ثبت اليوم حسن هذا التوجّه الذي حمله محمد القرفي ودافع عنه لأكثر من خمسة عقود بما يميّز هذا الرجل من جدية واحساس وصرامة، وظهر بإبهار خلال عرض الفصل الجديد من “زخارف عربية” الذي احتضنه في أواخر فيفري الماضي مسرح الأوبرا بمدينة الثقافة.
تجربة “زخارف..” تعود إلى تسعينات القرن الماضي. محرّكها الأساسي كان وما يزال تشبيك الأعمال الموسيقية بين المبدعين العرب الذين يجتمعون حول نفس القناعة ونفس الهدف المتمثلين في معرفة التراث معرفة عميقة، وتوليده أعمالا فنية راقية تواصل المدّ الثقافي العربي ولكن بالسمو به فكرا وصياغة حتى يكون قادرا على حمل الاحساس العربي بالواقع الحاضر وايصاله للآخر. هذا المشروع الذي أسهم في وضع لبناته فنانون كبار أمثال سيد درويش ومحمد عبد الوهاب والاخوان رحباني يتطلب تغييرا جوهريا في التعامل مع التراث يتعدى الخضوع إلى الإخضاع، أي أنه لا يجب تقديس ذلك التراث وتكراره، بل الانطلاق منه لانتاج أعمال تضيف إليه وتثريه بأدوات ومعان جديدة.
واستنادا إلى هذه الثوابت التي رافقتة منذ سبعينات القرن الماضي، ولكن بإدراك أشمل واتقان أكبر لمتطلبات العرض، قدّم محمد القرفي “زخارفه…” الجديدة، فاسحا المجال لفنانين متميزين، مختلفي التكوين ولكن متشابكين في ما بينهم بجمالية الأداء، والدقة في التفاصيل التعبيرية، والمثالية في الحضور: نور الدين الباجي، حسان الدوس وأسماء بن أحمد.
ومن الأداء كفنّ قائم بذاته يعيد إحياء روح إبداع كبار الفنانين العرب الذي رفضوا السقوط في “فن تدوير الميزان والحزام” ليقدموا اعمالا ألهمت الشعوب وسمت بوعيها وانسانيتها، فتح القرفي “زخارفه…” الجديدة على أعمال موسيقية معزوفة، بعضها من انتاجه والأخرى لفنانين مصريين ولبنانيين ادّاها عازفو الأركاستر السنفوني بمهارة عالية، وتوّجها ضيف العرض عازف الكمان البشير السالمي بأداء رائع يؤكّد حرفيّة هذا الفنان وشاعريته الكبيرة. أعمال تحيي حاجة العربي المستمرة لاستنهاض روح الصمود فيه واستيقاظ حب الجمال الذي يرفض الرداءة المؤدية إلى الخنوع والإنكسار.
ذلك هو الفن الملتزم الحقيقي الذي لم ينفك محمد القرفي يعمل على تحقيقه بإصرار وثبات وكثير من احترام الذات.


