
منذ أحوالي ثلاث سنوات نشرت في إحدى الصحف السيارة مقالا بعنوان “ومن القذارة ما قتل” تحدثت فيه عن الفوضى والعشوائية المنتشرة في تونس العاصمة وخاصة في الشوارع الرئيسية والأحياء التجارية العريقة وعن الحالة المزرية التي تردّت إليه.
أعيد اليوم نشره لأن الأمر استفحل وثبت أن مقولة ابن خلدون (1332-1406) في المقدّمة “الإنسان مدني بالطبع” بمعنى نسبة الإنسان إلى المدينة لا تنطبق على السكّان الجدد الذين لم يتأقلموا بعد مع الحياة المدنية وضوابطها وهم كُثر.
وقال النيسابوري (933-1014 م) من قبله في كتابه (المستدرك على الصحيحين) يفسّر المدنية: “تمدن الرجل أي تخلّق بأخلاق أهل المدن وانتقل من حالة الخشونة والبربرية والجهل إلى حالة الظُرف والأنس والمعرفة”.
فهل ينطبق قول النيسابوري على هؤلاء الذين ينتشرون في المدينة كالجراد بعاداتهم الفوضوية والمسيئة للبيئة ولأخلاق ؟ هل نحن نعيش أزمة ترهّل ثقافي ومجتمعي ؟
ذكرنا في سياق آخر حكمة النِّفَري أحد متصوفة القرن العاشر: “من لا يتقدّم يتأخّر”. وقرءنا أخيرا معادلة معاكسة في تدوينة معبّرة “لو عادت تونس خمسين سنة إلى الوراء لتقدّمت”.
كيف يمكن أن يوفّق بين المعادلتين من لم يعرف الحاضرة ستين سنة خلَت حين كنا نقول عنها “عجوز مترهلة تسعى إلى التحليق عاليا والجناح مَهيض”.
أظن -وإن بعض الظن إثم- أن جامعة الدول العربية ودولة الإمارات المتحدة اللتان نظّمتا منذ مدة قصيرة مسابقة بين البلديات العربية ومنحتا رئيسة بلدية الحاضرة المحسوبة على النهضة “جائزة التميّز الحكومي العربي في مجال الخدمات البلدية والإدارية المسندة للمواطنين عبر الإدارات المحلية والوزارات لأفضل رئيسة بلدية في الوطن العربي” (كذا) أخطأتا التصويب في المرمى وذلك لافتراضات أربعة:
1. أن المانحين -زاد الله في زادهم وأوفر حلالَ مالهم- يسْخرون من ذقوننا بِجد زيادة في التنكيل بنا لغاية في نفس يعقوب ويريدون إيهامنا أن مدينتنا أفضل حالا من المدن العربية الأخرى باستثناء تلك التي تعرضت لتخريب الحروب المدمّرة بما نسمّيه (البعير العربي) تحت غطاء الديمقراطية والحرية التي لا يؤمنون بها.
فالحالة المزرية التي آلت إليها العاصمة -مثل العديد من حواضر الداخل- لا تخفى عن الناظر، إن كان له نظر، سواء على أرض الواقع أو بواسطة “مسيّرات الدرون”.
2. أنهم لا يعرفون ما وقع لنا في هذه العشرية الحالكة من تصحّر فكري ومادي وأخلاقي وثقافي بفعل غزو الجراد النهِم والمخدّرات القاتلة وانفلات الزمام من يد الفارس.
لا يعرفون أن شرائح مجتمع جديد تعيش حالة عشق صوفي للرداءة وسقط المتاع من السلع المهرّبة والمرقّعات والخردة الآتية من وراء البحار وأنها انتصبت قسرا فوق كل شبر من أرصفة وأنهج وبين السيارات الرابضة دون نظام في الطريق العام وحتى حوالي بيوت الله تعرض عطورا مشبوهة وشعوذة موصوفة، ولا ينقصهم سوى مروّضو الأفاعي والقردة ومقتلعو الأسنان وباعة “زهم النعام”، فالطبيعة تأبى الفراغ.
3. أن لا أحد منهم وطأت قدماه أرض تونس منذ زمن، ولا تلطخت ثيابه بالمياه الراكدة في الحفر المنتشرة في كل مكان، ولا غرقت رجلاه في أوحالها، ولا تنفّست مناخره الروائح الكريهة المتصاعدة من بالوعاتها المفتوحة أو دخان عربات لحوم الشواء الملوثة للهواء، ولا تعثرت قدماه والتوت فوق الأرصفة الضيقة المتكسرة، ولا ارتطمت في أحجار الأشغال التي لا تنتهي، ولا تصدعت أذناه بالغناء الناشز من مصادح المحلات وبالحناجر المنكرة التي تقذف الذوق بذاءات دون حياء. صورة كفكائية جديرة بكتب الغرائب والألغاز.
4. أن جائزتهم هذه تستجيب في نهاية الأمر لأجندة سياسية مشبوهة العواقب لا ينالها إلا المقرّبون وهو ما يبدو لنا أقرب إلى الصحة، فالشيء من مأتاه لا يُستغرب.
كيف لا ؟ ونحن نعرف دون ريب من سخّر معاول الهدم لأعداء الوطن، من كرّس هذه الفوضى العارمة بشعارات زائفة لا تغني ولا تسمن من جوع غريبة عن تقاليدهم ؟ من زوّد الكيان الغاصب بالأسلحة والعتاد وضخّ له السِلع والمال دون حساب في حين يشحّون على أهلنا في غزّة بقطرة ماء وجرعة دواء.
نقول ذلك ونحن نعيش ما يحدث في تونس من فوضى وهمجية وإفراط في “البَدوَنة” bédouinisation à outrance وتدمير ممنهج لمقومات المدنية والحضارة يفوق تصوّر ابن خلدون ويشكك بنظريته في العمران. لقد تحقق حلم البداوة وزهق الحق وجاء الباطل وعلا التصحر فوق التحضر بمقدار، غزتنا جحافل المَغول وعاد هولاكو يعيث في الأرض فسادا ونحن واجمون، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
لم تترجّل صاحبة العصمة طوال عُهدتها التي أنهاها رئيس الجمهورية منذ سنة ولم تتفقد أحوال الرعية التي ائتمنتها على جودة الحياة مثلما كان يفعل ابن الخطاب، أم أن الفاروق شمّاعة علّقوا عليها دعايتهم الانتخابية ؟ لم تشهد حتى ما فعله “الوندال” بجدران المقر التاريخي للبلدية أو بجدران البنايات السيادية مثل الخزينة العامة ؟
هل أتاهم خبر الشوارع المُغلقة عنوة بفعل الباعة والعشوائيين ؟ أما آن للصبح أن ينبلج وأن تنقشع غيوم الجهل والتخلف ؟
ومما زاد الطين بلّة ظاهرة الدراجات النارية المستوردة من شرق آسيا والتي أغرقت البلاد في وابل من الغازات السامة. فأصحابها يتنقلون بعائلاتهم ويتقاسمون معك الرصيف بكل وقاحة ودون رادع وفي كل الاتجاهات بما فيها الممنوع حتى يضطرّ المترجّل للنزول إلى الطريق المعبّد ليفلت من تهوّرهم.
وإلى جانب هذه الظاهرة المقيتة التي نتفهّم انتشارها في الهند (مليار ونصف المليار نَسمة) أو في بنغلاديش (171 مليون) نظرا للفقر المدقع الذي تعانيه مجتمعاتهم يعود العشوائيون إلى الانتصاب بسلع من سقط المتاع ولكن في محلاّت اشتروا أصولها التجارية من أصحابها الذين بعد أن أثروا من التهريب والبيع دون ضرائب مدة ثلاثين سنة.
أمام هذا الوقع المسموم لم يبق لنا سوى أن نستسلم للعشق الزؤام ونردد مع الحارقين بكل مرارة قول نزار قبّاني: