
كثر الناشرون رغم ظروف البلاد. وهذا دليل أوّل على أنّ النشر صار مهنة مريحة. والدليل الثاني هو السيّارات الفاخرة التي يملكها الراسخون في الميدان. فإذا رأيتها في مأوى معرض الكتاب فاعلم أنّها ليست للكتّاب.
والعمليّة سهلة بما أنّها ليست أكثر من وساطة مضمونة دون أيّة خسارة بين مؤلّف يتحمّل تكاليف الطباعة. بما فيها الإعداد الطبيعي وبين مطبعيّ يصنع الكتاب الورقيّ. عمليّة يقوم بها الناشر بشعار الداخل في الربح والخارج من الخسارة، دون أن يستحي من إلصاق رمزه التجاري على الغلاف لضمان حقوق النشر له وكأنّه صاحب المزيّة على المؤلّف عند تفضّله عليه بالرمز كما هي القيمة المضافة الشاهدة لصالح المبتدي الحالم بمسار إبداعي.
ومنتهى الجشع عندما يطالب الناشر الكاتب بنسبة من سعر البيع بصفة موزّع. وفي أغلب الحالات لا يطبع الكمّية كلّها بل يقسّطها على قدر البيع ابتداء بشراءات وزارة الثقافة إذ يقدّر لها خمس نسخ من الكتاب الفنّي أو خمسين من الكتاب العادي فإذا جاءه الطلب طبع لها العدد المطلوب فورا بفضل السحب الالكتروني. وهكذا لا يدفع كامل التكاليف كما لا يحتاج إلى مخزن متضايق بكتب معرّضة للتلف والخطر. ومن شروط الناشر على الكاتب الشبيهة “بشرط العازب على الهجّالة” أن يتنازل له عن شراءات الوزارة. والحقّ أنّها لا تسمن ولا تغني من جوع سواء بالنسبة إلى الناشر إذا ضرب أخماسه في أسداسه أو بالنسبة إلى الكاتب إذا رأى ثروة في المنام ولو أنّه، في أغلب الحالات، يفكّر في الجوائز ويبيت ساريا كالطمّاع إلاّ من عرف قدره وتأدّب في فعله. ومن أقلّ من يفكّر اليوم في خدمة العباد والبلاد عن طريق الكتاب خاصّة والثقافة عامّة !
ومعرض الكتاب، كما هو معلوم وملحوظ، سوق آخر سلعة تباع فيها هي الكتب، بعد لعب الأطفال والمأكولات والمشروبات وما يسمّونه تنشيطا بما في ذلك الندوات التي لها قنّاصوها، على غرار الجوائز، من جماعة “اللوبي” الثقافي، هؤلاء الذين لم تطرق لجان التحقيق في الفساد أبواب مكاتبهم وخزائنهم بعد.
ومهما ارتفع سعر الكتاب التونسي، أو انخفض بنسبة عشرين بالمائة، فالزائر إنّما يقصد المعرض لأجل الكتاب الأجنبيّ، الوارد غالبا من المشرق، لا من المغرب، أي من مصر، ولا من الجزائر. فنحن، للأسف، لا تقرأ لأجوارنا. ولا عجب فإنتاجنا، نحن أيضا، لا يقرؤونه، بل نحن أنفسنا، أو فيما بيننا، لا نقرؤه، بل نزدريه ونخشاه لما يخفي للعائلة من المفاجآت غير السارّة تأثّرا بأفلامنا التي تغري المستشهرين بمشاهد العراء من بيت النوم إلى بيت الاستحمام بدل الحمّام الذي كان.
وقد أتيحت لي فرصة تصحيح الكتب قبيل دفعها إلى المطبعة فهالني تدنّي المستوى اللغوي الذي لا يُطمئن على مستقبل اللغة العربيّة في الوسط الجامعي. وهذا فضلا عن الهنات المنهجيّة التي منها الجهل بترتيب حروف الهجاء من خلال قائمة المصادر والمراجع. ولا بأس، بالمناسبة، من الإشارة بعد “الشيخ غوغل” (Google) إلى قرينه “الشيخ المضادّ للسرقة” (Anti-plagiat). وهو خير مساعد على حماية السارق والمسروق حتّى لا تنكشف الجريمة. وما أكثر الذين لا يستحقون فيفعلون ما يشاؤون أسوة بأساتذتهم الدكاترة المتخصّصون في لحن الخاصّة والعامّة باسم الحداثة تماما كالنصوص التي يدرّسونها من تلك الإنتاج التونسي العظيم المتحرّر من كلّ قيد وشرط من قيود الفنّ وشروط الإبداع الحامية للمجتمع من الضرر في هويّته وقيمه وذوقه.