نحن التونسيّين أبرع الناس في التعاليق الرياضيّة والتحاليل السياسيّة ووصف المشاكل وتصوّر الحلول في كلّ موضوع. ولا لوم على غيرنا إن غاظه تفوّقنا فحسدنا على ذكائنا الطبيعي الذي يغنينا عن الذكاء الاصطناعي. ولكنّ معضلتنا التي تعوق تقدّمنا هي العجز عن تحويل القول إلى فعل والنظريّة إلى تطبيق. وربّما يرجع هذا العجز إلى تشعّب المسائل وتعدّد المتدخلين. والمسؤوليّة إذا صارت جماعيّة لم يعد يتحمّلها أحد فإذا هي كالكرة بين الأقدام، فكلّ واحد يتبرّأ منها ويقذفها لغيره. وأحيانا يخاف منها ولو في الجانب الذي يعنيه تلافيا للخطإ أو للتقصير وتجنّبا للمساءلة والمحاسبة إن هو اجتهد ولم يصب. والسلامة قرينة الجبن، والنجاة في الحذر، والنجاح في مسايرة الأمور لتجري أو لتمشي على المعتاد حتّى تأتي نقلة بترقية أو يحين وقت التقاعد.
بمثل هذه العقليّة وتوابعها من إهدار الوقت بتعلّة الإجراءات من لجان واجتماعات ودراسات وتقارير ومناقصات يستحيل أن نتقدّم، بل المؤكّد أن نتخلّف لأنّ خسارة الوقت هي خسارة المال وتعطّل المصالح وتفاقم المشاكل وغير ذلك ممّا تعيشه الإدارة العموميّة ويتأسّف له المواطن.
ولست في حاجة إلى وقت إضافي للتذكير أو للتكرار في ظاهرتين خطيرتين بشهادة الإحصائيّات ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي،.إحداهما هي الغشّ في الامتحانات في جميع المستويات والأخرى هي الجريمة في جميع الفضاءات وداخل المدارس والعائلات، وبين الأولى والثانية علاقة سببيّة وتشابه أو تقارب أو تشارك في الحلول. والمقاربة شاملة، فيها القانون الواجب تحيينه، والإعلام الواجب توظيفه، والمدرسة المطلوب تطويرها، والأسرة المدعوّة إلى القيام بواجبها. والعمليّة في مختلف مراحلها تربويّة أخلاقيّة لكلّ طرف فيها قسط من المسؤوليّة لأنّ وراءها أزمة قيم ناتجة بدورها عن تقصير الجميع في تنشئة هذا الجيل الذي غمره اليأس بعد صبر وانتظار وأمل منذ الثورة الفوضويّة. وقبلها فشلنا في الليبراليّة على عهد الهادي نويرة. وكنّا قد لجأنا إليها بعد فشلنا في الاشتراكيّة زمن أحمد بن صالح. وكلتاهما سياستان اقتصاديّتان مستوردتان ومسقطتان على مجتمع حديث العهد بالاستقلال ولم يجدّد هياكله التقليديّة كما لم تتشكّل فيه نخبة قادرة على التصوّر والتخطيط لنموذج محلّي قادر على التوفيق بين الأصالة والمعاصرة لا كشعار بل كواقع. وبدل التوفيق حصل الانقسام بين الاعتراب والاغتراب، بين المعوّلين على النموذج الفرنسي وبين المتعلّقين بالمسار القومي. واليوم انتبهنا إلى حقيقة صادمة ومحبطة، هي أنّ الغرب تجاوز فرنسا والمشرق تجاوز مصر والشام والعراق. فإمّا أن ننظر اليوم إلى أمريكا وإمّا أن نتشوّف إلى جنوب شرق آسيا. والأفضل أن نستنبط رؤية لا شرقيّة ولا غربيّة، بل وطنيّة تونسيّة عسى أن نخرج من عنق الزجاجة ونسلم من سياسة مرتجلة كخبط العشواء. والمقصود حكومات تصريف الأعمال المعنيّة باليوم لا بالغد، كالعائلة التونسيّة تماما.