مرّت أربعون يوما أو أكثر على وفاة “الحكيم” سليم العنّابي (1949-2025م). وهو طبيب ورئيس قسم استشفائي جامعي سابقا وأستاذ مساعد بكلّيات باريس سابقا أيضا٬ وأخيرا طبيب خاصّ متخصّص في الأمراض العصبيّة و النفسيّة للكهول والأطفال والعلاج السلوكي و علاج مصابي التخدير ٬ أي المدمنين على المخدّرات ٬وخبير الطبّ الشرعي وعضو الهيئة الوطنيّة للوقاية من التعذيب من جملة عدّة جمعيّات في تونس وباريس ومونريال وواشنطن. وزيادة على ذلك٬ وفي إطار علاقتي به ٬هو رئيس مؤسّس لنادي مصطفى الفارسي للإبداع منذ وفاة الأديب الكبير سنة 2008م. لم يخطئ في أمرين يذكّران به و يتسبّبان في الترحّم عليه . أوّلهما أنّه كتب على بطاقة الزيارة صفة “الحكيم” بدل الطبيب ٬ وهي الأصحّ لأنّها ترتقي به من علاج البدن الممكن إلى علاج النفس الأعسر. وهذا الترقّي يحتاج حقّا إلى أكثر من الطبّ٬ يحتاج إلى الحكمة الآخذة من كلّ شيء بطرف ممّا نسمّيه اليوم “الثقافة العامّة” بدءا بالأدب و استعانة بالكتاب. ولقد كان فعلا مدمنا على المطالعة ومتابعا لإصداراتي ومشجّعا على المزيد مع شغف خاصّ بالتاريخ و تحديدا أصول الشعب التونسي . وثانيها أنّه كان السند المعوّل عليه كلّما تضايق النادي بالمعنى المادّي لأنّه في الأصل كان الصديق المرافق للفارسي في حجّة التوبة و المخلص لروحه في كلّ ذكرى.
وأمثال سليم العنّابي رفيقنا نحن في النادي قليلون لبعد الشعب العلميّة والتقنيّة عن الشعب الأدبيّة واللغويّة وشعب العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة. أعرف استثناءات مثل الحبيب جاء وحده الصيدلاني الكاتب ٬وعلي عارف أستاذ الكيمياء الشاعر٬ وسليّم عمّار بما خلّف من الكتب في تاريخ الطبّ مع الألفيّة النفسانيّة ٬ ومحمود بالعيد طبيب الأسنان القصّاص٬ وصديقي المختار بن إسماعيل طبيب الجهاز الهضمي والروائي الشاعر٬ وأحمد ممّو الجيولوجي والقصّاص الناقد . وقد نسيت آخرين. وكذلك كان الأصل لدى العرب والفرس في تعدّد الاختصاصات و تكاملها لأجل مقاربة أو نظرة شموليّة في دراسة أيّ موضوع لأنّ الحقيقة ٬وبالتالي الحلّ أو العلاج ٬لا تظهر كاملة من زاوية واحدة ولا يتسنّيان من اختصاص واحد . وقس على ذلك التداوي النفساني بالموسيقى وبالنّشاط الجمعيّاتي بما فيه العمل التطوّعي. وأنا٬ على سبيل المثال والحمد لله على أحوالي ٬إنّما أقاوم القلق والتوتّر بالقراءة والكتابة وبالتناوب مع الموسيقى الراقية ٬ وأعمل بنصيحة” حكيمنا” المرحوم إذ قال لي مرّة: “في التأنّي السلامة “ومرّة أخرى: “إذا لقيت الزهو والطرب لا تبدّله بشقاء ولا بتعب” رواية عن السلف الصالح.
وذات مرّة طلب منّي الحكيم سليم أن أشتري له “لسان العرب” لابن منظور في خمسة عشر جزءا مجلّدا مهما كان الثمن. فرجوته أن ننتظر معرض الكتاب، ولكن حصل ما لم يكن في المنتظر. أقصد حادث السقوط الخطير على مفصل الورك. والطبيب إنسان ككلّ الناس يصاب ويمرض حتّى في اختصاصه. وهذا زمن الأمراض المزمنة والأمراض النفسانيّة في حمّى فوضى الياسمين والربيع العبري والمعيشة الظنكى. وكلّه بأيدينا ٬لا بيد عمرو.
فماذا ننتظر لنراجع أمورنا في جميع المجالات لأجل حياة سعيدة نتحكّم في دقّاتها في ظلّ القيم الروحيّة والأخلاقيّة التي على أساسها تبنى الدول وتبقى الأمم ٬ في إشارة إلى قول شوقي المشهور شعرا؟ أفلا تكون البداية من المدرسة ٬ بل من العائلة المدرسة الأولى التي شغلتها الحياة السريعة المغلوبة بالمادّيات عن إشباع الناشئة بغذاء الجسم والعقل والروح والنفس؟نعم٬ كذلك تكون البداية ويتواصل العمل لإنقاذ الجيل الجديد بما تبقّى من الأمل قبل فوت الأجل. وفي هذا المعنى كان يدور حديثنا كلّما زرته في عيادته المطلّة من أشهر المصحّات على أجمل مناظر تونس الخضراء عندما يأتي المساء محمّلا بتحيّة الغروب. وكان صديقنا جميعا نجما فهوى ٬ و بالأحرى ارتقى إلى رحمة الله في صحبة الصلحاء بصفات الطبيب والحكيم الإنساني.