
أنجبت هذه البلاد ٬بل هذه الثقافة ٬ أحد كبار المؤرّخين أو أكبرهم على الإطلاق ٬ هو عبد الرحمان بن خلدون الذي عانى من الفقهاء في عصره بإمامة ابن عرفة ما حتّم عليه الهجرة ٬ وظلّ منسيّا حتّى اكتشفه الغرب فاسترجعناه بتمثال يخلّده ومؤسّسات وشوارع وأحياء وغير ذلك باسمه. ولولا التعليم العالي لما عرفت المؤرّخ وكتابه إذ درّسنيه عبد المجيد الشرفي الغنيّ عن التعريف. ولكن بقيت مادّة التاريخ في التعليم الثانوي محقورة بضارب واحد٬ وظلّت منهجيّة تدريسها عقيمة قائمة على الحفظ عكس ما أراد صاحب “المقدّمة” ومفصولة عن الجغرافيا رغم أنّهما يدرّسهما نفس الأستاذ ٬فلا تستخلص “العبر”.
وهذا مرجع هزائمنا نحن العرب أينما كنّا وفي أيّ وقت ٬ فنحن لا ندرس التاريخ ولا نتّعظ بالماضي٬ بل تأخّرنا في مراجعة تاريخنا لتخليصه من الأوهام والخرافات وتسريبات المذاهب و الإيديولوجيّات سواء الموروثة من الشرق أو المدسوسة من الغرب. ولذلك جرت العادة بتقديس تراثنا الإسلامي واحتقار تاريخنا القديم بشعار “الإسلام يجبّ ما قبله”. ولو سألت ٬ على سبيل المثال ٬ ٲجوار معبد الكابتول بموقع دقّة لقالوا لك:” ذاك بناء الجهّال” ولقصّ عليك أعلمهم أسطورة النسر المنحوت بأبعد ما يكون الخيال عن الحقيقة. وهذا موضوع تناولته في مقال ضمن كتاب تكريمي لعالم التاريخ و الآثار المرحوم سليمان مصطفى زبيس. وقد جمعت ونشرت مقالاته عن الأندلسيّين و الموريسكيّين في إطار اهتمامي بهذا الموضوع فكنت كلّما وقفت على الفتن والحروب في الأندلس ٬ كما هو عنوان أطروحة جمعة شيخة المنشورة٬ انتقلت بسرعة الكهرباء من الماضي إلى الحاضر لتشابههما في الأخطاء والمآسي وكأنّ المسلمين لم يستوعبوا دينهم. وفي هذا حجّة القائل بأنّ التاريخ يعيد نفسه. والأصحّ أن نقول:”نحن نعيد التاريخ في شبه حلقات متشابهة٬ ولا نتقدّم على خطّ مستقيم”. والحقّ أن نقول بصدق وشجاعة:” نحن نعيد الهزائم”. وخير الأدلّة قضيّة فلسطين العربيّة التي عايشت آباءنا وتعايش أبناءنا وما من حلّ بين عدوّ عنيد من جهة وأصحاب حقّ في شقاق صريح من جهة أخرى. و”الراكبون” على القضيّة كثيرون ومن مختلف الأنحاء . وما كان لها أن تدوم لو كانت بالجوار المغاربي حيث طرد المستعمر بوحدة الصفّ وبالتضحيّات بعيدا عن المصالح الشخصيّة والخيانات. وأقرب الأمثلة غار الدماء ملجأ قيادة جبهة التحرير الجزائريّة وساقية سيدي يوسف القرية الشهيدة ممّا يشهد على أنّنا وأشقّاءنا شعب واحد٬ أبطال في نفس القلعة وبناة لنفس المصير. ولم ننس فلسطين.
وضّح لهم بورقيبة السبيل في خطاب أريحا الشهير فرموه بالطماطم إرضاء لجمال عبد الناصر زعيم القوميّة العربيّة المزعوم. واستقبلناهم ضيوفا في تونس ووادي الزرقاء فرأينا منهم هنا ما رأى الباجيّة منهم هناك. وتبرّعنا لجرحاهم بالدم ولياسر عرفات بالمال فورثته سهى. وقذفت الطائرات الٳسرائيليّة حمّام الشطّ حيث مقرّ القيادة الموقّت فخصّص للضحايا جناح بالمقبرة. وساهم كلّ قادر بالنفس والنفيس وبالصوت والقلم في المقاومة ولم نخذل ولم نخن ولم نتاجر ولم نتشدّق . وها نحن ندفع الثمن بإباء واعتزاز وفخر وشعور مسؤول دون تراجع في موقفنا رغم الإغراءات والضغوطات ورغم ظروفنا الصعبة منذ اندلاع فوضى الربيع العبري.
وتلك جامعة الدول العربيّة أو بيت العرب بل خيمة القبائل العاجزة. فالخيمة تنفخ فيها الرياح من كلّ جانب٬ والقبائل وفيّة لتاريخها الموسوم بالخلاف والاختلاف. وعندما سئل عمرو موسى عن صعوبات الوفاق و الاتّفاق عدا ضرب العراق بتعلّة مكذوبة أجاب بأنّ وجود الجامعة أفضل من عدمه ولو كهيكل ومهما كان الأداء إلى أن يجتمع الشمل على كلمة سواء. وكان قد عانى من المفاجآت وهي في بلده الممضي على معاهدة كامب ديفيد سنة 1978 ما عاناه الشاذلي القليبي من قبل وهي في بلده أي بلدنا هذا .
وهذه٬ بتاريخ 9 جوان ٬2025 قافلة الصمود لكسر الحصار على غزّة من جهة رفح حركة رمزيّة تدلّ على تضامن الجزائر وتونس لنصرة فلسطين بالتوازي مع سفينة مادلين. ورغم العاقبة المعروفة على صورة سفينة مرمرة سابقا فالنتيجة إيجابيّة بمعنى أنّ الكيان الصهيوني يتحدّى العالم في حرب توسّع وتدمير شامل ولا يعترف بالقوانين والمنظّمات الدوليّة في إبادة جماعيّة . إنّه باختصار خطر لا على المنطقة فقط بل على الكرة الأرضيّة. وبالأمس القريب كان يظهر في صورة الضحيّة فإذا هو اليوم ينكشف بجرائم أخطر من النازيّة على البشريّة بعد أن احتمى سنينا بدعوى الهولوكست وفتوى معاداة الساميّة .