
هكذا نحن التونسيّين٬ ولا أستثني نفسي٬ كسائر العرب تماما٬ نلتفت إلى الماضي ونتحسّر على ما فات أكثر ممّا نتشوّف إلى المستقبل ونخطّط لما هو آت. نحن أوفياء لأجدادنا الذين اعتادوا الوقوف على الأطلال٬ فنحن نسترجع الذكريات٬ ونستعمل أكثر من اللاّزم عبارات مثل “أيّام زمان “و” ياحسرة على زمان بوعنبة !”و” آه على ما فات!” كما هو الكلام الجميل في المالوف والموشّحات والأغاني الشهيرات وحديث السلف “الصالح” عن البدعة التي هي الضلالة بناء على أنّ شرّ الأمور محدثاتها.
وجيلي الداخل في خبر كان قريبا هو جيل الأمس الذي لا يعجبه جيل اليوم٬ جيل الشباب٬ في كلّ شيء. وعندما كنّا شبابا كان آباؤنا يحقّرون من شأننا بعبارة ” ماذا تعرفون من الدنيا؟” أو بعبارة ” كنّا…وكنّا…أمّا أنتم…!” وهكذا يرجّح كلّ قديم قدامته المقدّسة على حداثة يراها عشواء ويخشاها كأنّها من العبث والطيش والعقوق.
وبمثل هذه العقليّة التي تربّينا عليها بالخرافات والأمثال لا نتقدّم أو بالأحرى يتعذّر علينا التقدّم لأنّنا نخشاه كما نخشى المفاجآت٬ ولأنّنا لا نثق فيمن يجب علينا أن نسلّمه المشعل و لا نعوّل على من يجب عليه أن يتحمّل عنّا المسؤوليّة مواجها المشاكل الطارئة أو الموروثة بما أوتي من الوسائل ومن الإيمان بالذات القويّة المتحدّية المناضلة.
والحقّ أنّي بين عقليّتين وبين جيلين كالميزان حسب ما يقال عنه في تفاوت كفّتيه ٬ فتارة ينتابني اليأس وطورا يهديني الأمل ٬ وحينا أفرّ إلى الماضي وأحيانا أتفاءل بالمستقبل .وأحسب أنّي لست وحدي في هذه المنزلة بين المنزلتين كما يقول المعتزلة بما أنّي واحد من الناس ومعهم في نفس الحياة من هذا الوقت بالذات.
وهو وقت لا نحسد عليه رغم الجهود والمحاولات ٬لأنّه أشبه بفترات التخلّف والانحطاط من تاريخنا الوطني والعربي الذي لم يكن دائما خارقا للعادة في ظلّ العدل والأمن وجملة القيم كما كان ينبغي لأمّة فضّلها الإسلام على الأمم. غير أنّ الأزمات وإن طالت واشتدّت مقدّر لها أن تنفرج وتزول كالليل بالفجر٬ جزاء التضحيّات وبدءا بالإرادة ٬ إرادة التغيير ٬ تغيير النفسيّات.
وعلماء الاجتماع والأطبّاء النفسانيّون يعرفون مجتمعنا الراهن أكثر من المؤرّخين والأدباء، يشخّصون المرض بفقدان التوازن بين المادّيات والروحانيّات، والمقصود طغيان الأولى على الثانية. ويلاحظون من الأعراض تفشّي الأنانيّة واستفحال الفساد وتفاقم العنف والإجرام مع الإفلات من العقاب، وانتشار أساليب الغشّ والاحتكار، وبلوغ اليأس بالضعفاء إلى الإدمان بل إلى الهجرّة بل إلى الانتحار، ويصفون العلاج بالتربية والرّدع، أي بالعائلة والمدرسة والثقافة والإذاعة والتلفزة ثمّ القانون.
والحقيقة أنّ الشعب الكريم هو صاحب القرار والمسؤول عن مصيره، لا الحكومة وحدها، وإن كانت كلّ وزارة وكلّ هيئة وكلّ منظّمة تتحمّل قسطًا من المسؤوليّة وتساهم بنصيب في الكلّ. فالتشغيل الحامي للشباب من آفات البطالة أحسن مثال ومجال لوجوب تضافر القطاعين العامّ والخاصّ على أساس احترام الحقوق والواجبات المتبادلة، بعد القطع مع المناولة وأشكال الاستغلال. والأولويّة لأصحاب الشهادات الصحيحة، لا المزيّفة “المضروبة”، الذين طال انتظارهم والأعمار تجري بهم في كنف العجز عن الزواج والسكن، حتّى دقّت الإحصائيّات ناقوس الخطر، خطر ترهّل السكّان وبالتالي عجز العاملين عن القيام بالمتقاعدين كما هي سنّة الحياة.
وللأسف، فالتشغيل آفته عقليّة “مسمار في حائط” التي تنخر الإدارة وتُعطّل التنمية وتضرّ بمصلحة المواطن. وهذه لا بدّ لها من لقاح نهائي، أمام العجز والتقصير وسوء عمل مصالح الرقابة، وهو مضاعفة العقوبة والتشهير بالمدان عسى أن يكون عبرة لمن يعتبر. هكذا يكون تطهير البلاد من الجراثيم المعدية والخفافيش اللئيمة.