
سألت شيخ اللّحية والعمامة وعلامة الجبهة عن مصير كوبرنيك يوم الحساب، فأجاب بأنّه يسير بإذن الله إلى النار. وأوضحت له أنّه عالم فلك وفضله في تصحيح النظرة إلى الكواكب على أنّ محورها الشمس، فأصرّ متعلّلًا بأنّه من الكفّار. وسألته عن فليمنغ، مكتشف البينيسيلين، وعن فرويد وتلميذيه يونغ وأدلر في علم النفس التحليلي، وعن ماري كوري الوحيدة المحرزة على جائزة نوبل مرّتين، في الفيزياء مع زوجها سنة 1903 وفي الكيمياء بمفردها سنة 1911، تقديرا لإنجازاتها في النشاط الإشعاعي الذي استفاد منه الطبّ في التصوير بالأشعّة بعد أن أصيبت به، وعن غير هؤلاء أمثال نوبل وباستور وأنشتاين. ذكّرته بفضل كلّ منهم على البشريّة، فجمعهم في نفس المصير بنفس التعليل. وذكرت له بعض العلماء الفرس القدامى، فردّ: “المسلمون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون”. ونبّهته إلى أنّ بعضهم يشكّ في القرآن ويسخر من السيرة، فعلّق بأنّ الله أعلم بما في القلوب. ثمّ سألته عمّن بقي للجنّة بعد حشر العلماء والعقلاء في الجحيم، فأردف بأنّها للمسلمين بشفاعة خاتم الأنبياء والمرسلين. وعند هذا الحدّ، لم أجد فائدة في مواصلة الحوار، عدا الدعاء بألّا يحاسبنا خالقنا على أفعالنا التي انحرفت وفسدت حتّى لم نعد في حاجة إلى خنّاس وسواس.
هكذا فكّر الشيخ ويفكّر أمثاله الكثيرون بمنتهى الحزم وغاية الحسم حتّى لا يبقى موجب لاجتهاد ورأي آخر٬ كأن تشمل رحمة الله الواسعة أولئك وأمثالهم من عظماء البشريّة جزاء إفادتهم في سبيل إعمار الأرض. وأعظم بها أمانة ومسؤوليّة!
وعند هذا الحدّ، يقف الخطاب الديني، وخاصّة المشاع منه بمناسبة صلاة الجمعة، بعيدًا عن مشاغل الناس٬ وكأنّ الأيمّة يقيّدون المطلق ويشترطون الإيمان فيما لم يشترطه القرآن في الآية: “إنّما يخشى الله من عباده العلماء”، والرسول في الحديث: “لو تعلّقت همّة المرء بما وراء العرش لناله”، حيث لا تخصيص للعلماء بالمؤمنين، ولا للمرء بالمؤمن، زيادة على كون العلم ضالّة المؤمن، فطلبه فريضة أقوى من الجهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة أعلى من الزكاة.
بمثل هذه العقليّة، كما ترسّخت في اللّحي والعمائم، لا ولن نتقدّم. وإنّما الحلّ والواجب يقتضيان تجديد الخطاب الديني حتّى يصير مواكبًا ركب الحضارة في ظلّ مبادئ الإسلام ومقاصد الشريعة، التي منها المصلحة. وهذه تستجلب بالعلم والعقل والنقد والاختلاف، بدل الاعتكاف في المساجد والحرص على السنن أكثر من الفرائض والاحتجاج بالأحاديث الضعيفة بدل الآيات الواضحة والاتّفاق على الأوهام والخرافات، كفهم سورة الشرح في صورة عمليّة على القلب المفتوح في الهواء الطلق حسب حديث غير معقول مرفوع إلى الرسول، والله القادر بـ”كن فيكون” على تطهير قلب الفتى دون إرهاب وعناء، كقدرته على معرفة طاعة إبراهيم خليله دون امتحانه مع ولده إسماعيل. وما أكثر أمثال هذه المرويّات والحكايات في التراث الديني المشترك بين المسلمين وأهل الكتاب، ممّا يحتاج إلى غربال واسع الثقوب!
وإن لم نسارع إلى الغربلة لإسقاط الظرفيّ المقيّد بأسباب وأحداث، واستخلاص الدائم المشبّع بالعبر والقيم، فسنجد أنفسنا، وبالأخصّ شبابنا، وكذلك ثقافتنا، في مواجهة خاسرة أمام تحدّيات هذا العصر العسير، التي منها، أو في طليعتها، الدراسات القرآنيّة والإسلاميّاتيّة. ودُعاتها٬ منّا ومن غيرنا، لا يخفون ما كان يخفيه بعض المستشرقين المناوئين، بل صاروا يعلنون برنامجهم المشجَّع عليه بالتمويلات والجوائز، والهادف إلى الإطاحة بالمسلمين عبر تخريب دينهم من الداخل، طعنًا في القرآن والسنّة والشريعة٬ على أنّ القرآن بشريّ، والسنّة متأخّرة عن صاحبها، والشريعة محكومة بالسياسة. وبعض هذا صحيح، وليس كلّه، بما أنّ الحقّ يقتضي الاعتراف بالفجوة المتّسعة بين الرسالة المحمّديّة وبين التاريخ الإسلامي منذ عهد الرسول (ص)، ثمّ عند إغلاق باب الاجتهاد، ثمّ عند فشل الحركات الإصلاحيّة الحديثة حتّى كان ما كان من مساوئ الاستعمار وأخطاء حكومات الاستقلال ومشاكل التنمية والتخطيط.
والاستعمار الثقافي المدعوم بالفرنكوفونيّة، بعد تحرير البلاد، حكم علينا، في كامل الشمال الإفريقي وعديد دول القارّة السمراء ، بالتبعيّة للمستعمر القديم واعتباره نافذة على أوروبا، والغرب عمومًا، وقدوة للتقدّم على درب الحداثة. فمتى ننتبه لنلتفت إلى الشرق، حيث حداثة أخرى مختلفة عن الليبراليّة الجشعة وساعية إلى التوفيق بين المادّيات والروحانيّات؟ وكلّ واحد على دينه.