للأسف، أنا متأكّد من أنّ جيل اليوم، جيل الٲنترنت وتوابعها من فايسبوك وتيكتوك وغوغل ويوتيوب، لا يعرف كيف كانت الإذاعة الوطنيّة في الستّينات والسبعينات من القرن الماضي، والوحيدة آنذاك٬ تضطلع بمسؤوليّة ترقية المجتمع بالتوازي مع سياسة بناء الدولة موفّقة بين الإعلام والتكوين والترفيه ببرامج هادفة حتّى في اختيار الأغاني بما فيها المهداة في حصّة “أغنية لكلّ مستمع”. كانت للمرأة حصّة كما كان للأطفال “جنّة الأحد” لأجل الثقافة العامّة. وكان للمثقّفين موعد يوميّ من التاسعة إلى العاشرة ليلًا أو نحو ذلك يتناوب عليه أشهر الكتّاب والمؤرّخين، وكذلك كان للمبتدئين برنامج “هواة الأدب”. ويوم الأحد علامته نقل مباشر من الملاعب بعنوان “رياضة ونغم” وأغاني محمّد عبد الوهّاب. أمّا الأغاني الفكاهيّة ففي صبيحة الأحد مقابل “مجلّة الأحد” الثقافيّة في السهرة.
بالفكاهة كانت أغاني صالح الخميسي والهادي السملالي ومحمّد الجرّاري ومحمّد المورالي ومحمّد الحدّاد ورضا الحجّام موجّهة إلى النقد والإصلاح على درب مكافحة الجهل والخرافات والتشجيع على التعليم وتحسين الهندام والتوق إلى عالم التضامن والسلام. وبالفكاهة واللغة المبسّطة كانت قصص علي الدوعاجي ممتعة ومصوّرة لمجتمع متحوّل يحاول التوفيق بين الأصالة والحداثة. وباللّسان الدارج كان عبد العزيز العروي يقدّم الأخبار ويؤنس بالحكايات التربويّة ويفصل النوازل مستجيبا لقولة مشهورة: “اشكِ للعروي”. كان حقّا زمنا جميلا، أحبّ من أحبّ وكره من كره، مفعما بفرحة الاستقلال، مُنارا بالأمل والثقة في مستقبل أفضل بالتعويل على التعليم كمصعد اجتماعي وعلى المرأة كنصف المجتمع وعلى الصحّة بما فيها برنامج التنظيم العائلي وكذلك على الرياضة تجسيدًا لشعار “العقل السليم في الجسم السليم”.
ومن ذكرياتي في ذلك الزمن، وقبل انتشار التلفزة ببثّ محدود من السادسة مساء إلى منتصف الليل وبربط أحيانا مع القناة الفرنسيّة الثانية لأجل شريط ونقاش بعنوان “ملفّات الشاشة” أو لأجل حوار بين كاتب وبرنار بيفو في شكل “طبيخ ثقافي”، من ذكرياتي، كما قلت، مشهد أحد المتسوّقين يوم الجمعة في بلدتي الطيّبة وهو يُسند إلى صدره وسمعه مذياع الترانزستور لمتابعة “قافلة تسير” البرنامج الشعبي المواكب لبرنامج التنمية الريفيّة الاقتصادي والاجتماعي، ولخطب الرئيس بورقيبة وتوجيهاته الصباحيّة المنتقاة منها بعناية محمّد رؤوف يعيش. وكذلك أتذكّر بوراوي بن عبد العزيز في “الأسرّة البيضاء” وفي “سمّار الليالي”، وصالح جغام في “يوم سعيد”، وعادل يوسف في لقاءاته العفويّة “على الشطّ”. ذلك أنّه كانت للبرمجة الصيفيّة نسمة من طرائف النهار ومهرجانات الليل بقدر ما كانت للبرمجة الرمضانيّة نكهة الشهر الكريم بالمثل العليا بين العلم والإيمان.
إذاعات اليوم – وما أكثرها – ! دردشات وسخافات على قدر منتجيها، وفي مستوى متابعيها. وأنا، للأسف أو للفرح٬ في غنى عنها حفاظا على ذوقي من الانحطاط، وعلى عقلي من التبلّد، وعلى قلبي من ارتفاع الضغط.
والإذاعات والتلفزات مرايا للمجتمع عاكسة لمستواه إن كان يبتكر ويبدع ويجدّد ويتقدّم أو كان يجترّ الشيء المعتاد ويعيش على “البائت المسخّن” سواء في الثقافة أو في السياسة. وأعظم بها مسؤوليّة رئاسة دولة في هذا الزمن المتٲزّم بأيدينا، للأسف!