
•فقدت الساحة الفنية في تونس الرسام العصامي حمادي بن سعد الذي نجح في بناء مسار فنيّ متميّز.
حمادي، كان يمثّل كل ما في الفن التشكيلي من جمال حقيقي: الفطرة، العفوية والقدرة على اخضاع كل شيء حوله لإرادته الإبداعية.
لم يدرس حمادي بن سعد الفنون الجميلة. ولم يملأ راسه بكبرى النظريات. وإنما أحسّ وهو شاب يافع بحاجة قويّة الى التعبير بالألوان والاشكال عمّا كان يختلج في صدره وما يدور برأسه من فوران وهو يطوي المسافات الطويلة مشيا على الاقدام بين سكناه المتواضع بحيي هلال الشعبي والشوارع الفاخرة الممتدة بتونس العاصمة، في نهاية ستينيات القرن الماضي.
ذكر لي مدير المركز الثقافي الايطالي في منتصف السبعينيات انه استقبل في ورشة رسم تلميذا طويل القامة نحيفا وخجولا. وبعد بضع حصص معدودة شاهد ما كان يرسمه ذلك التلميذ فناداه ليقول له إنه ليس في حاجة الى دروس وإنه عليه فقط ان يواصل العمل وسوف يصبح رسّاما كبيرا. صدقت رؤية الاستاذ الإيطالي.
بدأ حمادي بخطّ أشكال على الورق، ثم قاده خياله الواسع الى التوجّه دون حدود الى رفع تلك الأشكال إلى مستوى تعابير تطوّرت وتعمّقت خلال احتكاكه باوساط الفن التشكيلي التي كانت ناشطة في السبعينيات، وخصوصا مجموعة رواق جوليات نحّوم بنهج ابن خلدون، ومن بينهم الشادلي بلخامسة و ابراهيم العزابي ولمين ساسي…
لكن حمادي كان يحبذّ سلك طريقه وحيدا بعيدا عن كل التأثيرات. كان نهرا جامحا متدفّقا انتاجا وإبداعا. كان يرى في كل ما يحيط به فنّا ممكنا، وكان يحوّل ما يقع بين يديه الى عمل فني باستعمال مواد متنوعة ومختلفة، من تلك التي تصادفنا جميعا في حياتنا اليومية فلا نعير لها اهتماما أو نرمي بها في سلة المهملات.

حمادي لم يكن يهمل شيئا. لذلك جرّب فنّ الاستيراد (la récup) في بداية مشواره قبل ان يتركه ليتوجّه بوضوح الى الرسم حيث انتج صورا- بورتريهات بوميض من الألوان “الفلاش” وبملامح أقنعة افريقية تبثّ كثيرا من الحنين الغامض الى موطن خيالي، إلى يوتوبيا، لم يكن يعرفها الّا هو.
تلك كانت المرحلة الاساسية في تطور الفنان حمادي بن سعد الذي انغمس لاحقا في زخم الألوان تاركا لخياله حرية السالك الباحث عن مريده بين طرق مختلفة، بين التجريد والتشخيص والترميز، ليستقرّ في نهاية مسيرته الى جنس فني مستقل بذاته، متحرر من كل القيود، متمرد عن كل الضوابط، قادر على الامتداد ملء كل الأسطح والفضاءات.
رحل حمادي وبقيت لوحاته التي قال فيها كل ما لم يكن يستطيع- او يريد قوله- بالكلمات. بقيت لوحاته تتناثر على أطرها متجاوزة ما حدده لها المكان والزمان. وهذا الدرس: أن الجمال موجود في كل واحد منّا مركوز فينا- على تعبير خلان الصفاء- وأن الفن عمل دؤوب لا يكلّ ولا يملّ ولا يعتريه الشكّ.
السلام الى روحك الجميلة حمادي. حزين أني لم أحضر معرضك الأخير!