
السعادة، كما أشعر بها أحيانا قليلة، ليست أكثر من لحظة طارئة عابرة من دون استئذان، مقرونة براحة نفسيّة وحالة ذهنيّة وانتظام فيزيولوجي شامل للأعضاء إذ تؤدّي وظائفها دون عناء أو تعثّر أو تشنّج. السعادة درجة روحانيّة يبلغها الزاهد في الدنيا، المتسامي عن الرغائب، المترفّع عن الحسابات، المتشوّف إلى الذات العليّة في أتمّ التخلّص من المادّة والاستعداد للآخرة. هكذا تقريبا حياة النسّاك في الأديان وسيرة الصوفيّة في الإسلام.
وسعادتي بسيطة وغير مكلفة، تنتابني بالمعنى الإيجابي إذا قرأت أخبارا سارّة في مستوى الوطن العزيز، لا فرق بين مدينة أو جهة وأخرى وكأنّها كلّها كبلدتي الطيّبة وجهتي الزاخرة.
خبر كتكوين جمعيّة الهلال الرياضي لاحتضان شباب حي هلال بتونس، أو كفتح خمسة مراكز لتوزيع الأدوية الخصوصيّة، أو كربط تجمّع ريفيّ بشبكات الماء والكهرباء والطرقات، أو كتتويج رياضيين من الجنسين بميداليات رفعت لها راية تونس مع النشيد الخالد، أخبار تغمرني بالفرح والأمل رغم الظروف العسيرة شخصيّا ووطنيّا. فهي التي تخفّف أحزاني إذا سمعت أنباء عن غرق مستحمّين ومهاجرين، واحتراق غابات ومزارع ومصانع ودكاكين، وعنف واغتصاب ونشل وسرقة وانتحار واعتداء على الطريق العام وغشّ واحتكار، وفساد متزايد وتعطيل للمسار. وبين هذه الأنباء وتلك الأخبار تتأرجح وطنيّتي وتضطرب درجات سعادتي بين الصفر والمعدّل كما بين اليأس والأمل.
ولكنّي لست معزولا أو منعزلا عن العالم وأخباره شرقا وغربا من كارثة غزّة إلى حرب روسيا إلى العدوان على إيران، ومن الحرائق إلى الفيضانات، ومن الأمراض والأوبئة إلى الفقر والمجاعات، وكأنّ الأرض مريضة. ذلك لأنّ البشريّة المتطوّرة وفق النظام العالمي الجديد المحكوم بالرأسماليّة واقتصاد السوق والبراغماتيّة والنزعة النفعيّة والروح الأنانيّة المبرّرة للعدوان والحروب والاستعمار والإبادة قد أساءت إلى البيئة وتنكّرت للمبادئ والقيم التي لأجلها سُنّت القوانين والدساتير وأسّست المنظّمات والجمعيّات. والمسؤولون في الدرجة الأولى هم الملوك والأمراء وقادة الدول العظمى، وفي طليعتهم رئيس مثير للجدل، مستثمر في الحروب، معوّل على الصهيونيّة لنيل جائزة نوبل للسلام على جثث الأطفال والنساء في غزّة والضفّة من فلسطين المقاومة، رغم الحصار والخيانة والخذلان من بني عربان.
في هذا العالم وفي هذه الأجواء أحيا مدمنا على الأخبار على مدار الساعة، محكوما عليّ بالعجز، مطالبا بالتزام الصبر لتخفيف الضرر على الجسم والنفس. وحسبي أن أستطلع خبرا وأن أستبين بصيصا كالنور من الأمل، أو كسدّ الرمق من المأكل، وليس لي من سلاح غير الدعاء وكتابة أحزاني لمن يقرأ في عصر الومضة والصورة والإثارة والإشهار.
فمن النكبة إلى الهزيمة وإلى طوفان الأقصى شرق أوسط جديد يتشكّل، ومن الثورة “المجيدة” إلى 25 جويلية 2021 وإلى اليوم تونس تتحدّى. وأنا، من هنا وهناك، بين عالمين، أسائل عيني وقلبي وعقلي بأسلوب أبي العتاهية شاعر الزهد في القرن الثاني الهجري (ت 211 هـ):
فحتّى متى حتّى متى وإلى متى * يدوم طلوع الشمس لي وغروبها؟