
هدم نزل البحرية ليس مجرد إزالة مبنى من على وجه الأرض بإحدى أهم مناطق مدينة تونس والتي يشقّها محمد الخامس، أحد أجمل وأشهر شوارع العاصمة، بين البناءات الرسميّة الشاهقة وصفوف النخيل القديم.
هدم نزل البحيرة الذي كُشف عن خبر قراره نهاية الاسبوع الماضي، إنما هو بمثابة تقليع ورقة من كتاب ذاكرة المدينة، بما يعني “التقليع”من اعتداء، وعنف، واحتقار.
ما زلت أذكر افتتاح تلك البناية في سنة 1973، وتحوّلها سريعا إلى معلم سياحي مميّز، ثم إلى علامة من علامات العاصمة الخصوصية، بفضل جرأتها الهندسية المنتمية إلى نمط “الوحشية” (brutaliste)، وهي مدرسة في البناء ظهرت شواهدها منذ منتصف القرن الماضي في عديد المدن في العالم، قبل أن تختفي تاركة تُحفا هندسية فريدة. كان تدشين نزل البحرية حدثا كبيرا جسّم في آن واحد فرادة جيل الاستقلال الأول الواصل عندئذ إلى مراكز القرار في الدولة الناشئة، وإرادته وضع تونس على مدار الدول المقبلة على المستقبل دون مركّبات وبكثير من الحلم.
لم يجلب نزل البحيرة بشكله الغريب المتمثل في “هرم مقلوب”، السياح وحسب، بل كان لسنوات طويلة ملتقى المثقفين والفنانين. لماذا تراجع نشاطه فجأة، لماذا أُغلق، لماذا أُهمل لأكثر من عقدين من الزّمن؟ لا جواب…!
لكن هدم هذا النزل-المعلم سيكون، إن تمّ، بمثابة جريمة لا تقلّ خطورة عن تهريب آثار تاريخيّة وطنيّة. ولربّما أخطر من ذلك: لأن الهدم سيمحي معلما من ذاكرة التونسيين ويغّير ملمحا من ملامح وجه العاصمة.
إنها جريمة موصوفة. لإن المبنى، وإن كان مِلكا خاصّا، فقد أصبح كذلك، بحكم الزمن ملك كل التونسيين، مكتسيا بذلك دلالة رمزية كبيرة تتجاوز أي قيمة تجارية، وكلّ تعدّ على هذا المعلم إنما هو تعدّ على تاريخ البلاد المباشر، وعلى مشروعيّة جيلين كاملين من التونسيين، وعلى الذائقة الجمالية العامّة، وعلى الهوية الوطنية. وهو يضرب، بالنتيجة، قدرة تناقل وتواصل التراث والذاكرة الجمعيّة بين أجيال التونسيين.
إن هدم نزل البحرية عمل يحمل كل معاني الإزدراء والاحتقار عبر تسليط عنف وجبروط رأس المال الذي لا يرى غير الربح المادي وسيلة وهدفا.
يجب منع تنفيذ هذه الجريمة.