
يوم تنصيب حكومة سارّة الزعفراني الزنزري وأثناء تهنئة وزيرة الثقافة أشاد رئيس الجمهوريّة بأصالة قدّور الصرارفي وجيله وكأنّه يوصيها ويكلّفها بالمحافظة على الروح التونسيّة التي وإن اقتبست من الشرق والغرب في العقود الماضية فإنّها أصبحت اليوم مهدّدة بالتلاشي في خضمّ الأنماط المستوردة كما أحبّها الشباب.
هذا جيل وسائل التواصل الجديدة المؤثّرة في الذوق العامّ حتّى لا يسلم من التيّار الجارف إلاّ من ربّى ذوقه على الفنّ الأصيل، ذلك الفنّ الذي يستوعب ولا يذوب، ويأخذ من روائع العالم دون طغيان على الهويّة.
والاقتباس، ولا أقول السرقة بل أقول التأثّر، ظاهرة معروفة في أعمال المشاهير دون عيب متى تمّ الانصهار حتّى لم يعد المستمع يفطن بالجملة المدسوسة. وكان عبد الوهّاب كمثال يحسن الاختيار والإدماج فلا ينتبه أمثالي، بل أهل المهنة هم الذين يلاحظون الدقائق ويشاركونه الفعائل.
وتوجيه الذوق لأجل تربية أصيلة أو لأجل انسلاخ مسيّس مهمّة متقاسمة بين المدرسة الأولى وبين الإذاعات المسموعة والمرئيّة والمهرجانات. وللأسف تقهقرت التربية الموسيقيّة أمام طوفان “الرّاب” حتّى تناست الوزيرة التوصية الرئاسيّة فابتدعت الدورة الأولى لمهرجان دولي لما أعتبره أزمة ذوق من جملة أزماتنا. يسمّونه فنّا حقيقا بالحضور مع أشباهه اعتبارا لاختلاف الأذواق، وأسمّيه سخافة وابتذالا إذ جمع بين كلام الشارع وطقطقة المعامل.
لست وصيّا على الأخلاق ولا قاضيا لأقاوم شكلا من الفساد وأحمي العائلة والمدرسة، ولا مسؤولا على الإذاعة والتلفزة لأقرّر رأي لجنة مراقبة. ولست أيضا مديرا لمهرجان لأفرض رؤية ترتقي بالجمهور. هذه مهمّة وزارة أو اثنتين. وحسبي لفت النظر إلى مبلغ التدهور بذريعة أنّ الجمهور “عايز كدا” أي يحبّ كذا وكذا من ” الشطحات والشيخات”. وحسبي، كذلك، التذكير بأهداف المهرجانات مذ أسّستها كتابة الدولة للشؤون الثقافيّة والأخبار بإشراف الشاذلي القليبي ضمن دولة البناء والتشييد.
ومن المهرجانات المختصّة كان مهرجان المالوف في مستواه المغاربي والدولي الرفيع. انظروا كيف صار في الدورات الأخيرة! ومن الحفلات الخالدات منذ بناء قبّة المنزه سهرتان لأمّ كلثوم. ومن ضيوف عيد المرجان بطبرقة عبد الحليم حافظ. وذاكرة مهرجاني قرطاج والحمّامات شاهدة على روائع الموسيقى والمسرح والرقص من الإبداعات العالميّة والعربيّة ومن التجارب التونسيّة.
أتأسّف على الراهن ولا أتفاءل بالقادم لأنّ التغيير يحتاج إلى “رجال” متشبّعين بالخبرة والكفاءة والجرأة والشجاعة والإرادة والنزاهة، مقدّرين الروح الوطنيّة الأصيلة المتفتّحة. أمّا الأموال فهي في المقام الثاني، وهي موجودة بدليل التبذير والإهدار سواء لسوء الحوكمة وفوضى التصرّف أو لفساد التدبير وخفايا المعاملات والحسابات.
ولا شيء أنتظره من مسؤولين يبرمجون بعقليّة “ليلة صلّى الله” وبطريقة “البائت المجمّر” كما هي غالبا أعراسنا وأكلاتنا. لكأنّ الرئيس في وادي عبقر والوزيرة في وادي القرى !