عربون

(من كواليس الدورة 59 لمهرجان قرطاج الدولي)

كان “العوادجية” الذين يشتغلون في الحفلات الخاصة والعامة مثل عوّادة القنطرة وغيرها يعقدون اتفاقاتهم فيما بينهم ومع المقاولين والوسطاء من خارج الميدان في مقاهي معلومة بالمدينة منها مقهى العبّاسية في باب سويقة ومقاهي أخرى بحي الإذاعة لافايات ويشترطون على مشغّليهم دفع مقدّم من الأجر عند التعاقد يسمّونه “عَربون”.

ويمثّل العربون ضمانا للجانبين وحفظا لحقوقهما في حالة خلاف بين الطرفين وإنقاذا لما يمكن إنقاذه، ومنه جاءت عبارة (عْرابني) التي يستحي منها موسيقيو اليوم رغم أنهم لا يختلفون وضعا عن أسلافهم السابقين إلا بمقدار الاحترافية.

فالعرابني هو الفنان الذي ليس له شغل قار وينتقل من مجموعة إلى أخرى حسب ما يقتضيه الحال. ويقابله اللفظ الفرنسي cahetonneur وقد انتشر اليوم في أوروبا نتيجة تكاثر خريجي المعاهد المختصة من ذوي الكفاءات العليا وتقلّص عدد الفرق القارة المدعومة من الدولة أو المجالس المحلية وخصوصا صعوبة مناظرات الانتداب.

وإذا كان العرابني الأوروبي يعزف في مختلف المجموعات مؤلفات متعددة الأصوات (polyphonique) من السجل العالمي الذي خبره أثناء دراسته فإن نظيره التونسي يقفز بين أنواع متضادة (du coq à l’âne) أحادية اللحن (monophonique) لم توضع أساسا للآلة التي يمارسها زيادة على مُزاملته لهواة وأنصاف متعلّمين.

وللمشتغلين التونسيين في هذا المجال عبارات شهيرة منبثقة من صميم واقع المهنة لعلّ أشهرها: (فْلوسْ العوّادة إذا باتوا ماتوا) أي أن الموسيقيين إذا لم يتقاضوا مستحقاتهم في الإبان فسيشقون كثيرا لكي يحصلوا عليها وربما تضيع منهم إلى الأبد.

والسبب بسيط: فالموسيقى مثل كل أثر فني لا مادي سريعة الزوال ولا يبقى منها في الذاكرة سوى شذرات تتبخّر من أذُن السامع حال انتهائها، وبالتالي فإن السامع في مجتمع لم يتربّ على التذوّق الفني وتعوّد على نموذج “خشبي” موحّد لا يمكن له أن يستسيغ ما يسمعه أو يقيّمه ولا أن يرقى إلى الجهد الذي يبذله الفنان ليقدّم مُنتَجه.

ونضرب مثلا بما قالته إحداهن لصاحب الفرقة حين طلب بقية مستحقاته إثر انتهاء الحفلة: ماذا فعلتم ؟ أكلتم وشربتم وتبخّر غناءكم ثم تريدون المال أيضا ؟ أخرجوا قبل أن أطلب لكم الشرطة بتهمة إثارة الشغب.

أو بتلك التي طردت الموسيقيين من بيتها في سيدي بوسعيد وامتنعت عن دفع باقي أجرهم لأنهم رفضوا أن يتجاوزوا التوقيت المتفق عليه دون مقابل. وبالمناسبة ابتكر أحد الموسيقيين المشهور بظُرفه عبارة صارت أضحوكة الوسط هي “بَسْعْدوهْ” أي لم يُعطوه أجره إشارة إلى المكان الذي وقعت فيه الحادثة.

وبالفعل، هذا ما فعلته معنا إدارة مهرجان قرطاج، فقد “بَسعدتنا” ولم توفنا مستحقاتنا وبعد لأي سوى يوم 15 أوت 2025 أي بعد أكثر من ثلاثة أسابيع من تقديم عرض الافتتاح “من قاع الخابية” (19 جويلية 2025) في حين أن كل الذين قدموا عروضهم بعدنا تقاضوا مستحقاتهم في الإبان.

تتساءلون لماذا ؟

لأن الزُمرة المشرفة على تسيير المهرجان والتي ليس لها علاقة بالعمل الثقافي لم تعجبها انتقاداتي الصريحة لسياسة الكيل بمكيالين التي تنتهجنها في التعامل معنا ومع الشرقيين الذين يتقاضون أجورا عالية وبالعملة الصعبة بينما تشحّ على التونسيين “ولا تجود إلا بمقدار”،

فما كان منها إلا أن “قَرطجتنا” بتعطيل الإجراءات المالية كل هذا الوقت إلى درجة أن المشاركين في العرض ظنّوا، ولهم الحق في ذلك، أني استوليت على المال وهربت إلى الخارج أو اشتريت سيارة أو غير ذلك من المضحكات المبكيات.

لكن، (اللي ما يدري يڤول سبول)