
(من خفايا الدورة 59 لمهرجان قرطاج الدولي)
هاتفني صديق إعلامي مستغربا: كتب أحدهم في ورقية سيارة أنك تقاضيت 600 ألف دينارا عن عرض افتتاح مهرجان قرطاج لهذه الدورة، فهل هذا صحيح ؟
ضحكت حتى كاد ينشقّ ثوبي طربا: آش خصّ ؟ لكن سرعان ما ثُبت إلى رُشدي وتمالكت نفسي عن الضحك خوفا أن تنشقّ شفتي مثل جَمل المثَل الشعبي.
أجبت صاحبي: لا بد أن هذا “الإظلامي” كما يسميهم المسرحي القدير توفيق الجبالي يستقي معلوماته من الأروقة المظلمة أو يسترق السمع مثل الجن من الموظفين المغرمين باستنباط الإشاعة فاختلطت عليه الأمور ولم يفرز “كوعه من بوعه”. ﴿وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً﴾ (سورة الجن، 9).
قد تكون المعلومة صحيحة لكنها أخطأت المرمى فهي لا تخصّني بل تتعلّق بعروض شرقية مستوردة “بالعمالة” المصرّح بها وبالعملة الصعبة ننتظر أن يحلل “النقاد المعتمَدون” شكلها ومضمونها ووقعها على الثقافة الوطنية وتأثيرها في المجتمع. شدّوا أحزمتكم.
لو أفصحنا عن العرض الذي بلغت كلفته هذا الرقم فستقلن مثلما قالت لنا محتجةً إحدى سيدات الزمرة المشرفة على إدارة الدورة الحالية لمهرجان قرطاج: هذا إفشاء لأسرار الإدارة، لكنها نسيَت أني لست موظفا بالوزارة ولا أمسك ملفاتها وليس لي إطلاع على أسرارها، بل إن الأرقام تبلغني ممن يسترقون السمع ويشيعونها في الوسط الفني.
وبالمناسبة، أليست الشفافية مقصدا رئيسيا من مقاصد سياسة الدولة ؟
لقد تقاضينا عن العرض مائتي ألف دينارا خُصم منها الأداء الجبائي (%15) وبلغت كُلفة المشاركين وعددهم 93 بين فنانين وتقنيين حوالي 140 ألف دينارا زيادة على المصاريف العرضية. فماذا تبقى لصاحب العمل الذي استغرق تحضيره ستة أشهر ؟
عددوا يا من تحبّون الحسابات: “من الشاه وذنها”، أي ما نعبّر عنه بمثلنا الشعبي (عيطة وشهود على ذبيحة قنفود).
قد لا تعلم هذه الشلة المفصومة عن تاريخنا الثقافي أني افتتحت منذ واحد وأربعين عاما دورة 1984 لمهرجان قرطاج الدولي لما كان يديرها الأديب المسرحي الم سمير العيادي بأوبرا كوميدية (opéra comique) “حكاية من قرطاج”، وهي توصف هكذا ليس لأنها مُضحكة ولكن لأنها تعارض الأوبرا المُغنّاة تماما باحتوائها على مشاهد تمثيلية دون غناء.

كانت هذه المؤلفة هي السادسة من نوع المسرح الغنائي الذي أرسيته في إطار فرقة مدينة تونس للموسيقى العربية التابعة لبلدية تونس والتي أسستها وأدرتها من سنة 1977 إلى سنة 1985: الغصون الحمر (1978-79)، من أغاني الحياة (1980)، قصائد حب إلى لبنان (1981-82)، صابر في مدينة السلطان تاج (1983)، عسكر الليل (1983) وشارك فيها حوالي 140 عنصرا بين موسيقيين ومنشدين وكومبارس وممثلين ومجاميع رقص وتقنيي الإكسسوار والأقنعة وخياطة الملابس والصوت.
الأوبرا عن فكرة لمحمد الڤَرفي صاغ سمير العيادي السيناريو وألّف الشعر الم عبد الحميد خريّف وصمم الرقصات رضا الصولي وتولّى التوظيب العام الم المنصف بالحاج يحيى مدير مسرح العرائس وأخرجها المسرحي القدير البشير الدريسي. التأليف الموسيقي وقيادة الأوركسترا لمحمد الڤَرفي وتنفيذ فرقة مدينة تونس للموسيقى العربية.
البطولة كانت للمطربين فاطمة بن عرفة وأحمد زرّوق والممثلين القديرين عمر خلفت ومحمد المورالي وباقي منشدي الفرقة.


وأذكر بالمناسبة أن مهندس الصوت الذي استقدمتُه من باريس لتأمين النقل المباشر بميكروفونات لاسلكية تصرّف معه تقنيّو المسرح الأثري بخبث وعدوانية وصلت حد تقطّع الصوت عديد المرات أثناء العرض وقد أرادوا إفشاله مثلما تعامل تقنيو اليوم مع المهندس الذي استقدمته هذه المرة أيضا.
هي أجهزة التقاط لاسلكي (ميكروفونات) وتجهيزات صوتية أخرى TOA اقتنيناها من اليابان للمرة الأولى في تونس بفضل مساندة رئيس اللجنة الثقافية البلدية الم الأستاذ المختار معرّف المحامي، وكان رجلا ذا ثقافة عالية مدركا لمقتضيات العمل الفني ولا ينتظر نصوصا وتراتيب لإجراء ما يلزم في الإبان.
كان هذا الإنتاج المبتكر مدعوما من صندوق الدعم الثقافي الذي بعثه في ذات العام الم البشير بن سلامة وزير الثقافة في عهد الوزير الأول الأستاذ محمد مزالي وبلغت كُلفته 57 ألف دينارا أي ما يعادل اليوم قرابة 600 ألف دينارا أو ربما أكثر.
وأسرّ بيروقراطي محنّك للوزير قبل انطلاق العرض مشككا: “إن شاء الله نَلْقاوْ فْلُوسْنا”. وإثر انتهاء العرض التفت إليه الوزير ضاحكا: “أظن لْقينا فِلُوسنا يا سي عْمارَة”.
هكذا كانت مهرجاناتنا الدولية إبداعا وإشعاعا وبحثا عن الجديد المبتكر فقد أدارها مثقفون في عز شبابهم نذكر منهم عبد الرءوف الباسطي (1948) ومحمد رجاء فرحات (1949) وسمير العيادي (1946) وعبد الرءوف بن عمر (1946) والمختار الرصّاع (1949) ومعلّمهم المثقف الاستثنائي الم فرج شوشان دون أن ننسى دينامو الثقافة الم حسن بوزريبة الذي تولى إدارة المهرجان لست دورات متتالية وبرمج عروضا عالمية كبيرة.
لقد كانت تصوّراتهم للفنون والثقافة وبرمجة العروض ثابتة في الأرض التونسية الحديثة ومتطلعة إلى ما يقع في العالم من جديد مُبتكر.
والتاريخ وحده كفيل بأن يسجّل لهم ولنا ذلك.
أما اليوم فبضاعتهم تدلّ عليهم. وسنعود إلى هذا الموضوع لاحقا.
