
هذا شرّ لا بدّ منه إذ قضت المصاهرة بتلبية الدعوة. وهي مجرّد فاتحة خطوبة كان يمكن أن تتمّ بنفر من كبار العائلتين ودورة حلويّات ومشروبات في حدود قارورة روزاطة في سطل ماء كما جرت العادة البسيطة ليبقى المهمّ للأهمّ. ولكنّ التطوّر كما فهمناه وأردناه جنف بنا إلى تعسير اليسير من الأمور والتكاليف.
وجدتني في خضمّ خمسين من الرجال والنساء في أثمن الحليّ وأروع الحلل كما شاءت الموضة وأمام فرقة بمضخّمات تنشر الصوت إلى أبعد الأجوار إعلاما وافتخارا. وكلّ عشر دقائق يطاف علينا بألوان من الحلو والمالح والمكسّرات والمبرّدات. ومسك الختام بعد الرقص وفوضى الأنغام الشماريخ لإخبار الأحياء المجاورة. وكان نصيبي من السماع صداع يطير النوم.
تمّت خطوبة بنت الحسب والنسب في صورة مهرجان منقول مباشرة بالفيديو والهواتف الذكيّة على الفايسبوك. ولم يبق لحفل الزفاف في قادم الأشهر إلاّ إمضاء عقد القران وتنشيط السهرة بأهل الاختصاص من “العرابنة” تلبية لرغبة عمّة العريس وشهوة خالة العروسة.
في زمني كانت هذه الحفلات كجميع المناسبات من أفراح وأتراح تقوم على التعاون والتطوّع. لكن اليوم تعدّدت الاختصاصات بتعدّد الأدوار في نوع من التجارة الموازية، فهذه شركة لكراء الكراسي والطاولات، وتلك للمشروبات والحلويّات، والأخرى للديكور، وغيرها للتصوير، بعد الأزياء والحلاقة والتجميل. والحساب بالفواتير ما بين أوراق نقديّة وشيكات بنكيّة. ولا نقاش في حقّ فرحة العمر.
ومن حولي عائلات ضعيفة الحال وشباب عاطل عن العمل بشهائد أو من دونها قد تقدّمت به السنّ نحو الأربعين ولا يستطيع فعل شيء ليملك نصف دينه ولو في مسكن على وجه الكراء كمثل شابّ يعيش دون أبسط دخل في كفالة والديه ودون التأمين على الحياة والحقّ في العلاج بأيّ شكل من الرعاية الاجتماعيّة. وحتّى إن عثر على شغل فهو الشغل المؤقّت الهشّ والاستغلال الفاحش بلا ترسيم ولا ضمان.
لا لوم على هذا الشباب الذي لم يجد حظّا في بلده وفقد الأمل والحلم إذا هاجر مقهورا متجشّما الغرق والإيقاف والترحيل بعد أن أنفق ما جمع واقترض على سماسرة الحرقة والتسفير. ولا لوم على هذا الشباب أيضا إن انحرف إلى الرداءة في الذوق مظهرا ولغة وفنّا وإدمانا. وأنا لا أشير إلى المخدّرات والعنف والجريمة وجميع الممنوعات التي ليست لها مبرّرات، وإنّما أقصد نمطا غريبا تفشّى في مهرجاناتنا واحتفالاتنا هو “الرّاب” المحشوّ بالكلام البذيء السخيف عن المخدّرات أي “الغبرة” وعن الحرقة والغربة والغدرة. ونجومه يتمعّشون ربحا وشهرة من هموم الشباب البائس ويستثمرون في أحزان المعذّبين والمهمّشين.
وهكذا فعل من قبل ممثّلون ومخرجون فصاروا نجوم المسرح والسينما. وحتّى في الأدب سردًا وشعرًا وقع شيء كهذا باسم الواقعيّة.
وهي واقعيّة أغرقت الإبداع أدبًا وفنّا في الخطاب المباشر الكاشف للمستور بعد أن كانت الرومنطيقيّة منذ قرن مضى قد سمت بالذوق والوجدان إلى عالم المثل من القيم والأحلام. بها نجوت في شبابي، وأحسبها دواء للشباب.