
(في انتظار العودة إلى كواليس مهرجان قرطاج 2025)
عم علي بن رِزﭪ (1914/1985) شُهر “عنتر” لسواد بشرته وملامحه الزنجية البارزة كان يعمل حارسا ليليا في مسرح مدينة تونس، ومن بين المهام الموكلة إليه قتل الجرذان التي تتكاثر في جميع مسارح العالم بسبب الألواح والديكورات الخشبية ثم “يحاسب” الإدارة كل صباح بعدد الجثث التي يقتنصها.
اشتهر عنتر ببأسه الشديد وقوة ضربة دبّوسه القصير وهو يُهوي بدقّة صاروخية على رأس الجرذ المنحوس فيرديه صريعا، وكان يشعر في قرارة نفسه بكل اعتزاز أنه لا يختلف عن عنترة بن شدّاد العبسي بن الأَمة الحبشية “زبيبة” في قوله:
وسيفي كان في الهيجا طبيبا / يداوي رأس من يشكو الصُداعَ.
خلال الحرب العالمية الثانية وكالتونسيين الأمّيين أمثاله تم تجنيده قسرا في الجيش الاستعماري وسافر معه إلى أوروبا لمحاربة ألمانيا النازية.
وفي ساعة تجلّي وصفاء روى لنا عنتر أنه لم يكن محاربا بأتم معنى الكلمة بل كان في الصف الثاني وراء المحاربين يحقن الموتى والمصابين بمادة الكافور (؟) كي لا تتعفّن أجسادهم ثم يسحبهم إلى الخط الخلفي حيث المستشفى الميداني، لذلك كان يقول مفاخرا: عملتُ في الفريق الطبي.
ومن حسن حظه أن نجا من الموت في إحدى المعارك الضارية ووقع في الأسر. ولما كان القادرون من الألمان مجنّدين في الجبهة ونظرا لعنفوان جسده وضعوه في ضيعة فلاحية مع الدواب في الإسطبل مثل البغل ليقوم بالأعمال الشاقة التي لا تقدر عليها النسوة.
ويتحسّر عنتر على أيام الضيعة وشراب “الصنابص” schnaps الذي يُذهب العقل وعلى “الغريب” ابنه الصغير من ألمانيّة الضيعة وقد تركه رغم الإغراءات التي قدموها له إثر انتهاء الحرب كما ندم على عودته إلى تونس بخُفّي حُنَين ليُنهي حياته حارسا بلديا يصطاد الجرذان ويتقاضى معاشا لا يكاد يسدّ الرمق.
الصدفة هي التي وضعت عم علي في طريقي لما كنت مديرا لفرقة مدينة تونس للموسيقى العربية (1977-1985) وكان مكتبي بالطابق الثالث من المسرح البلدي فقد اقترح عليّ مدير فرقة المسرح آنذاك المسرحي القدير البشير الدريسي أن ننتدبه حارسا لقاعة التمارين التي كانت تشترك فيها الفرقتان بمقابل يُعينه على “همّ الزمان”.

ومنذ ذلك التاريخ حتى وفاته صار المحارب الخفي أيقونة الفرقة يصاحبها في حفلاتها عبر مهرجانات الجمهورية ويشارك في مسرحياتها الغنائية بأدوار صامتة جدّ معبّرة وطريفة، وكنا أنا والشاعر الم عبد الحميد خريّف نكتب له أدوارا خصيصا لنضحك، وكنت أقول له: يجب أن لا يغيب عم علي عن كل مسرحية ننتجها، “ما تجيش دڤازة بلا فحمة”.
فقد تقمّص أدوارا متنوعة من حوذي في كوميديا “عسكر الليل” إلى غوريلا ثم عبدا عند تاجر الرقيق في أوبرا “صابر” إلى سكير ثم واشي في مغناة “من أغاني الحياة” إلى الحارس الخاص للقنصل الروماني في أوبرا كوميدية “حكاية من قرطاج”.

ومن نوادره أنه كاد أن يتسبب في كارثة ليلة عرض كوميديا “عسكر الليل” في اختتام مهرجان قرطاج الدولي عام 1983 لولا حضور بديهة أحد عمّال المسرح الذي أنقذ الموقف في آخر لحظة. فقد كان يقود عربة يجرها حصان ويركبها رفاق المتعة تنزل إلى الركح من أحد جوانبه ثم تمرّ على الخشبة وتقف وسط المسرح.
لكن عم علي ارتبك عند الدخول وصار يضرب الدابة بالسوط ويسحب اللجام في ذات الوقت حتى رفعت قوائمها تذمرا وتوجهت رأسا إلى الفرقة الموسيقية التي كانت تعزف فوق الأرضية وكادت أن تسقط فوقها هي والعربة ومن فيها لولا ألطاف الله.
مرت اليوم أربعون سنة على وفاته ولا يزال عم علي عنتر حاضرا في أذهان الأحياء من أعضاء الفرقة يتذكرون نوادره وما صنعوا فيه من مقالب مضحكة ولكنهم أحبوه بصدق ولاطفوه وعاملوه كواحد منهم وأحسنوا إليه بقدر المستطاع.

