
الموسيقار د. محمد القرفي
قديما كانت مهنة الموسيقي في عقلية المجتمعات المتخلفة متصلة بأفراح اللهو والطرب لا غير، وتعتبر هذه المهنة في الغالب غير جدية أو حقيرة وأحيانا غير شريفة ولا يُعتد رسميا بأقوال أهلها. وتروي كتب تاريخ الموسيقى العربية أن أحدهم دُعي إلى المحكمة ليُدلي بشهادته في أمر ما وسأله القاضي عن مهنته فأجاب:
موسيقي.
قال القاضي ضاحكا:
هذه ليست مهنة، وتعلم أنك بهذه الصفة ممنوع من الشهادة فأجاب الموسيقي بكامل جوارحه:
لكني أمتهنها وأُعيل أطفالي منها.
قال القاضي وقد عِيل صبره:
إذن فلنقل عامل يومي.
هذا المشهد المُضحك المُبكي والذي يعود زمنه إلى النصف الأول من القرن العشرين يتكرر اليوم في بعض الدوائر البيروقراطية المدنية.
فقد تقدّم مواطن تونسي مزدوج الجنسية إلى الدوائر المختصة بالخارج ليجدد جواز سفره ومهنته موسيقي يعمل في القطاع الفني فطلب منه الموظف الاستظهار ببطاقة الاحتراف تلك تسلمها وزارة الشؤون الثقافية في بلادنا للعاملين في هذا المجال.
فأجاب الرجل: هنا لا وجود لهذه البطاقة ولا لما يعوّضها، فالعمل في فرنسا حيث يعيش هذا المواطن يخضع لترتيبات مغايرة إذ يُعتبر العامل في القطاع الفني intermittent du spectacle et de l’audiovisuel فنانًا أو فنيًا محترفًا بشروط كل من يعمل خارج الهياكل النظامية ولدى شركات في قطاعات العروض الحية والسينما والوسائط السمعية والبصرية ويتم تعيينه بموجب عقد عمل محدد المدة (CDD) أو عقد عمل غير محدد المدة (CDI) مع تمتعه بكامل حقوقه الاجتماعية.

لكن الموظف تمسّك بموقفه وأجاب آسفا: لا أستطيع خرق لوائح القانون وسأضع “عامل بالخارج”، وعلى كل فالاثنان سيان بما أنك لا تمارس المهنة في تونس.
بطاقة الاحتراف الفني، السوسة التي تنخر جسد الفنون، سيف دمقليس المسلّط على رقاب الموسيقيين والمغنين منذ إحداثها عام 1958 أي منذ ما يزيد على خمس وستين سنة شاخت وفاح نتنها وامتدت اليوم إلى باقي الفنون الثقافية.
فقد كان مبتدعها يسعى إلى السيطرة التامة على هذا القطاع وبسط نفوذه على المشتغلين فيه، وهو ما كان يتماشى مع سياسة الدولة الستالينية التي هيمنت على جميع المسالك الحيوية.كانت الذريعة آنذاك حماية الوسط الفني من الدخلاء وتنظيم العمل فيه، لكن شيئا من ذلك لم يتحقق.
فالدخلاء في ازدياد وخلط الأوراق بين الاحترافية والهواية مستمرّ وصارت البطاقة تُسند لمن لا يمتّ للمهنة بصلة ودلائل ذلك على الشاشات المحلية واضحة وجليّة.
ورغم أن السياسات تلوّنت وتغيّرت من اشتراكية صارمة إلى رأسمالية المؤسسات الصغرى والمتوسطة فإن الدوائر المعنية لم تحرّك ساكنا أمام التغيرات الجذرية التي طرأت على المجتمع خلال كل هذه السنوات ولم تفكّر بصفة جدّية في مراجعة الأمر وتنقية الأجواء مما يشوبها من شبهات سنتولى بسطها في وقت لاحق.