(من دفاتري القديمة)
إذا لعبت فالعب مع أترابك، وإن تباريت فمع ندّ لك وليس مع من هو أقدر منك. فوزن الريشة ينهزم حتما أمام الوزن الثقيل. إن السابقين الذين قالوا “أكبر منّك بليلة أزيد منّك بحيلة” لا يمزحون. حذار، خذوهم على محمل الجد فأنتم تعلمون.
حدثني صديقي الشاعر الكبير الم عبد الرحمان الأبنودي (1938-2015) قال: “كلّ الشعراء الزجّالين في مصر دون استثناء: فؤاد حدّاد، أحمد فؤاد نجم، سيد حجاب، أحمد بخيت وغيرهم من ناظمي الأغاني خرجنا من عباءة بيرم التونسي (1893-1961). فهو أبو الزجل المصري وهو من فتح لنا أبوابه على مصراعيها وعلّمنا كيف نجعل من مُفرداته كتابة حديثة ترقى إلى المواضيع الإنسانية الكبرى بعيدا عن رتابة مغني الربابة الشعبي”.
شهادة من شاعر كبير عن شاعر كبير ألّف مئات الأزجال الشهيرة في الحب (هو صحيح الهوى غلاب) والغناء الشعبي (يا الله توكلنا على الله) والتصوف (القلب يعشق كل جميل) والحماسة الوطنية (يا مجاهد في سبيل الله) والاستعراضات السينمائية (بساط الريح) وغيرها من أصناف الفن والأدب والمسرح الغنائي (عزيزة ويونس) إلى جانب كتاباته في السياسة والاجتماع التي ملأت صحف زمانه.
ويذكرني كلام الأبنودي برأي الملحنين المصريين في بعضهم بعضا، فهم لا يقولون عن زملائهم إلا خيرا ولم أسمع أحدا منهم يقدح في الآخر بل يمجّده ويعظّم أدنى ميزاته ويتشرّف أنه تعلّم منه. أما عندنا فنادرا ما تجد من يعترف بجميل من تعلّم عنده بل تنكّرا وإنكارا ومحاولة استبعاده من الذاكرة الجماعية بعد أن محاه من سيرته الذاتية وسَطا على سجلّه ومدوّناته باستثناء واحد فقط هو الم صالح المهدي.
ورغم ما يُقال عنه فقد بقي المهدي مَدينا لمعلّمه ومُلهمه الأول خميّس الترنان وفخورا بأنه تتلمذ على يديه وأن تلاحينه هي تواصل لمدرسة الترنان بشقّيها التقليدي التونسي والكلاسيكي الشرقي وفَعلَ الكثير ليعرّف بأعماله في شتى المحافل المحلية والدولية.
لكننا نعيش اليوم أزمة أخلاقية حادة وسطوًا على الأفكار والمناهج وحتى العناوين وهو ما يدلّ على فقرٍ في الابتكار. وأذكر في هذا السياق قصّة معلّم المصارعة مع تلميذه الذي أصرّ أن ينازله وقد ظنّ أنه تعلّم كل شيء. لكن “المعلّم” باغته بقبضة لم يلقّنها له من قبل. ولما سأله عنها أجابه: تركتُها لك لمثل هذا اليوم.
لا مزيةَ ولا تفاخرَ حين أقول إني حملت القضية الفلسطينية في الجوى، فأنا من “جيل النكبة”، جيلِ أواخر الأربعينات المولود مع احتلال فلسطين وقيام دولة الكيان اليهودي، جيلٍ وعِي مبكرا بالصراع الوجودي بين أهل الأرض الأصليين والغرباء المتوافدين عليها من “الموعودين” بها من “ربّهم” وواكب مختلف مراحل الصراع في زمن كانت فيه الأفواه مشلولة ولا تُفتح إلا لتلتهم الغنائم على موائد اللئام.
أنا لا أصفّق للسلام -وهذا رأيي الشخصي- ولا أومن إلا بالحرية، حرية الشعوب في تقرير مصيرها وحرية المقاومة بكل الوسائل المتاحة حتى استرجاع الحق المسلوب.
فالسلام هو استراحة محارب يستعدّ لجولة موالية من القتل والدمار وأكذوبة مُخادع شيمته الغدر يتربص بعدوه وينوي أن ينقلب عليه في أية لحظة مثل الأفعى العمياء.
أما الحرية فهو استحقاق إنساني طبيعي وحق أزلي لا يسقط بالتقادم.
لذلك فالحذر كل الحذر لأن رباعية الأبنودي الشهيرة لا تزال فعّالة:
خَلّي السلاح صاحي
لو نامِتِ الدُنبا صَحِتْ مَعَ سْلاحِي
سِلاحي في إيدَيّه نَهار وِليل صاحي
ينادي يا ثُوّار عدوّنا غدّار
عندما تصدى أطفال الحجارة لجيش الاحتلال وقطعان المستوطنين ببطولات خالدة قدمت فرقة تونس للموسيقى العربية “زمن الحجارة” في مهرجان قرطاج الدولي سنة 1988 تضمن أغان من شعر درويش والقاسم وزيّاد وشاركت فيه إلى جانب سليم دمّق المطربة هدى عبد الله وزوجها الملحّن خليفة زيمان من البحرين وعزة بلبع من مصر.
بدءا من عام 1990 ولمدة ثلاث سنوات متتالية كنا على موعد مع جمهور مهرجان قرطاج الدولي في عرض “أصوات الحرية” ببرنامج متجدد من الغناء الملتزم بالقضية شارك فيه على التوالي مارسيل خليفة وجوليا بطرس وعلي الحجار إلى جانب صابر الرباعي وسليم دمّق وصلاح مصباح وثامر عبد الجوّاد وسنيا مبارك ونجوى.
هي أصوات الحرية وليست أصوات السلام، أصوات المقاومة المستدامة وليست أصوات الأيادي المرتعشة والمخدوعين، أصوات نابعة من صدق الأحاسيس ومن معاناة شعوب لا تزال تتلمس بنضالٍ طريقَها نحو النصر النهائي.