
•ما أزال أقرأ هنا وهناك التعليقات الطويلة حول اللائحة التي صوّت عليها البرلمان الاوروبي ضد بلادنا وأصدرها خلال جلسته الأخيرة في نهاية شهر نوفمبر المنقضي. كثير من تلك التعليقات مخطئة وتُظهر عدم معرفة بهذه المؤسسة الاتحادية الهامة والطريقة التي تعمل بها.
هل كان الرئيس سعيّد في دوره حين استدعى يوم 26 نوفبر الماضي سفير الإتحاد الأوروبي بتونس ليبلغه احتجاجا رسميا إثر لقاءه بأمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل دون إعلام الخارجية؟
نعم…لا
نعم، لأن رئيس الجمهورية يمتلك حق التدخل في كل ما يهم علاقات تونس الخارجية باعتباره “ديبلوماسي البلاد الأول”، وباعتبار الديبلوماسية-كما الدفاع-مجال رئيس الجمهورية الحصري.
نعم، لأن كثيرا من سفراء البلدان المعتمدة ببلادنا خرجت في السنوات الأخيرة عمّا تسمح به الأعراف والتقاليد الديبلوماسية، وراحوا يتصرّفون و”يتحرّكون” دون قيود ولا ضوابط وبصورة مفضوحة لا تراعي ما يتوجّب عليهم من تقدير وتحفّظ.
ولكن لا، لأن استدعاء سفير لإبلاغه احتجاجا رسميا هي مهمة تحت صلاحيات رئيس الجمهورية. وكان بالإمكان ان يتولى الأمر مدير عام الشؤون الأوروبية بالوزارة، أو كاتب الدولة، أو، في أقصى تقدير، وزير الخارجية. ويبدو انه تم التفطن لهذا “الخطأ التقديري” فتولّى وزير الخارجية استدعاء سفيرة هولاندة بتونس لذات الغرض الإحتجاجي.

*****
في مجال العلاقات الدولية هناك المبادئ وهنالك الواقع، وقلّ ما لا يسيران معًا. وما هو سارٍ في العلاقات الثنائية قد لا يسري حين يتعلّق الأمر بالعلاقات متعددة الاطراف.
في هذا الإطار تتنزّل علاقة تونس بالإتحاد الاوروبي التي عرفت منذ سنة 1995، تاريخ إمضاء اتفاقية الشراكة التي سبقت إليها بلادنا كل بلدان جنوب المتوسط-بما فيها اسرائيل- تطوراتٍ واحيانا تحوّلاتٍ كثيرة. ولعله يجدر ان نذكّر هنا ان تونس استفادت من هذه الشراكة ماديا وكسبت خبرة ودراية وكفاءة للتعامل مع مختلف مؤسسات هذا التكتّل الكبير والمعقّد الذي يجمع اليوم ثمانية وعشرين دولة (28) باعتبار كرواتيا المنضمّة أخيرا. أين ضاعت كل تلك الخبرة والدراية والكفاءة؟
البرلمان الأوروبي، هو أحد ركائز البناء الإتحادي الثلاث، إضافة إلى المجلس الأوروبي الذي يضمّ رؤساء الدول أو رؤساء الحكومات، والمفوضيّة التي تتمتّع بحق المبادرة.
منذ سنة 2004 التي شهدت انضمام ما لايقل عن عشرة بلدان (أوروبا الشرقية) دفعة واحدة، تنامى دور البرلمان الاوروبي وتعزز باعتباره المؤسسة الكبرى الوحيدة المنتخبة والمعبّرة عن هموم ال460 مليون مواطن أوروبي.
*****
الاتحاد الاوروبي الذي أُنشأ استجابة “لأحتياجات اقتصادية” بعد الحرب العالمية التي دمّرت اقتصاديات بلدان القارة، حقق نجاحات كبيرة جعلت منه أكبر تكتّل اقتصادي في العالم. لكن هذا التكتل بقي يعاني من شعور “عجز ديمقراطي” لم ينفك يلازمه إلى اليوم. ولتدارك هذه “الفجوة الديمقراطية” أُعطيت للبرلمان، باعتباره الممثل الشرعي والمباشر للشعوب الاوروبية، صلاحيات واسعة اهمّها الموافقة على ميزانية الاتحاد، ومراقبة المفوضية وانتخاب أعضائها، وكذلك-وخصوصا-التفاعل مع سياسات الإتحاد الداخلية والخارجية والتحقق من مدى تلاؤمها مع القيم التي تأسس عليها هذا التكتل الأوروبي، والمتمثلة في ثلاثية “دولة القانون-والديمقراطية-واحترام حقوق الإنسان”، وما يتبع ذلك من وجوب الحرية والمساواة واحترام كرامة الإنسان، وكلها قيّم منصوص عليها في ميثاق الإتحاد منذ نشأته.
صحيح أن اشياء كثيرة يمكن قولها في البرلمان الأوروبي، في طرق عمله، في تعالي وغرور كتله السياسية احيانا أو انحياز بعض أعضائها الواضح، في سهولة اختراقه من بعض الحركيين…
ولكن، من الخطأ الإعتقاد ان البرلمان الأوروبي موجّه ضدّ هذا البلد أو ذاك أو انه يستهدف هذا الشريك دون ذاك. ذلك أنه ليس كائنا موحّدا أو وحدة مدمجة تُحركها قوّة خفيّة، أو هو تركيبة تجمع كتلا سياسية متماسكة. البرلمان الأوروبي هندسة في تطوّر وتغيّر مستمرين، وهو بذلك يعكس واقع الشعوب الأوروبية بما يميّزها من تنوع ثقافي ومن اختلافات وتناقضات. وهو، في النهاية، نِتاج تسويات دقيقة ومريرة تحققت عبر حوالي قرن من الزمن بين مختلف الممارسات السياسية التي تشترك فيها شعوب ثمانية وعشرين دولة.
*****
من هذا المنطلق يكون التعامل مع البرلمان الاوروبي، أي كمنتدى كبير أو كمنبر عالٍ قادر ان يفتح آفاقا عريضة أمام صوت بلادنا، بقدر ما هو قادر على الإضرار بصورته والمسّ بسمعته وبمصلحة، بالنتيجة. إذ لا يجب ان ننسى ان للبرلمان الاوروبي خيارات كبيرة يمكن أن تصل الى حد المطالبة بإنهاء اتفاقية الشراكة. فهل نحن مستعدون لذلك؟
قلت إن البرلمان الاوروبي ليس كتلة مدمجة ولا يؤتمر بأمر أي سلطة في الاتحاد سواء كان المجلس الأوروبي، السلطة الاعلى في الاتحاد، أو المفوضية الاوروبية، صاحبة المبادرة وحارسة صندوق الإتحاد. وهذه الحقيقة تفرض التعامل معه بما يتناسب مع وضعه ككائن منتخَب من قِبل الشعوب الأوروبية. أي ان المؤهل للتعامل مع البرلمان الاوروبي ليس رئيس الدولة، ولا الحكومة، ولا حتى التمثيليات الديبلوماسية. وإنما المؤهل لذلك هم نواب الشعب بالاعتماد على انتماءاتهم الحزبية التي تمكّنهم من التحاور مع نظرائهم ضمن هذه المؤسسة الأوربية المبنية على كتل سياسية متقاربة تمثل مختلف العائلات الفكرية الأهم في بلدان الإتحاد ، وكذلك ممثلو المجتمع المدني القادرون على النفاذ باعتبارهم حاملين لخطاب غير رسمي، هؤلاء هم المحاورون الحقيقيون الذين يمتلكون شرعية وأحقيّة التعامل انطلاقا من نفس أرضية الانتخاب التمثيلي المباشر، ومن منطلق الإلتزام المشترك بقيم الدفاع عن دولة القانون والديمقراطية وحقوق الإنسان، والتي تمّ على أساسها امضاء اتفاق الشراكة في جويلية 1995، بين بلادنا والاتحاد الاوروبي.
