الموسيقار د. محمد الڤَرفي
“هذا الوطن الواقف تحت المطر الناريتُربَتُهُ الذهبُ الوهّاجْتُنبت فاكهةً وثمارْوبِه جنّاتٌ تجري من تحتها أنهارٌ.. أنهارْ” (عبد الحميد خريّف، مغناة “قصائد حب إلى لبنان”، 1982)غزّة تغرق، غزة تتنفّس تحت الماء. غزّة تستغيث ولا تُغاث، ولا حياة لمن تُنادي.
حناجر الأعراب خرساء وآذانهم صمّاء، وعقولهم سابحة في بحر المخدِّرات. شعب الجبارين صامد تحت وطأة البرد والصقيع في خيام مزّقتها الرياح وأغرقتها سيول الأمطار المتهاطلة على رؤوس أطفال دون غذاء ولا دواء ونساء بلا مأوى معتصمين بوتد ثابت في أعماق الأرض.
هذا المشهد المُشين المطبوع رغم أنف الناقة وصمة عار على جبين من لا يزال يُمسك سيفَ جدّه باسم النخوة والرجولة يُعاد ويتكرر يوميا بلا هوادة منذ سنتين وشعوبنا العربية التي فقدت وعيها وهويّتها ألهتها الاحتفالات الجنونية وخدّرها أفيون البطولات الكروية تبحث فيها عن بقايا انتصار تتعلق بوهمه وتستعيد به مجدا قديما “كان اليأس قد أماته” عسى يعبر بها إلى واقع جديد.
أما فضائياتها فمنشغلة حتى النخاع بأطباق الأكل في زمن الجوع وبيع الأواني المنزلية ومواد التجميل و”تُرضع” متابعيها مسلسلات وأفلاما متكررة الطعم بمكوّنات باهتة.
لم يعد أحد منهم يهتمّ بما يحدث في غزة والضفة أو في سوريا ولبنان، أو في اليمن وفي العراق، أو حتى في الأردن، الرؤوس مدغونة في الرمل مثل النعامة تنتظر مرور العاصفة (أخْطَا راسي وضْرَبْ) وهي تدرك يقينًا أن العاصفة ستضربها دون ريب وسوف ﴿لا تُبقي ولا تَذرْ﴾ (المُدّثّر، 28) وستُحرقهم كلما تجدد خلقهم (الطبري).
العجيب أن بعض فضائيات “الوسطاء” تأتي بمراسلين فلسطينيين (أو هكذا يدّعون) ليقولوا إن كل شيء على ما يرام في غزة وإن الغزاويين يشكرون رئيس هؤلاء على الشاحنات التي “تتدفق” يوميا عبر المعابر.
ويؤكّد لي صديق فلسطيني أن هؤلاء المتكلمين هم عملاء مثلهم مثل عميل الكيان “أبو شباب” الذي قتلته المقاومة في الآونة الأخيرة.
وبكل وقاحة ودون حياء تتوجه المذيعة المأجورة إلى الغُفّل: “إن بلادنا تقوم بدورها كأقوى دولة في المنطقة سندًا لأهلنا في غزة، لذلك نطلب منكم مزيدا من التبرّعات لفائدة إخواننا حتى نلبي حاجياتهم الملحّة خاصة في هذا الفصل البارد”.
في ذات الحين يصرخ الغزاويون في فضائية أخرى:
“إن المعابر تكاد تكون مغلقة وما يصل منها لا يكفي لسدّ الرمق والحياة في مخيماتنا جحيم: لا ماء، لا غذاء، لا دواء، لا غطاء.
والأدهى والأمرّ أن ما يصلنا من معلّبات غذائية أو طبية هي في جلّها منتهية الصلاحية”.
من تُصدّق ؟لكن أمام اللامبالاة العربية وصمت حكّامها المريب ترتفع أصوات اليهود من داخل الكيان ومن خارجه تندد بما يجري في الضفة الغربية وقطاع غزّة وتكشف فظائع حرب لانهائية تستمرّ منذ أكثر من عامين.
من ذلك ما كتبه الصحفي Michel Warschawski وهو ناشط سلام إسرائيلي يدعو إلى استبدال الدولة اليهودية بدولة ثنائية القومية: ” لقد تجاوزنا جرائم الحرب، إننا أمام جريمة ضد الإنسانية.
أرفض أي تماثل بين الجانبين، فهناك احتلال ومحتلّ.
لا يمكن أن تضع مليوني شخص في قِدر ضغط دون أن تدرك أن الوضع سينفجر عاجلا أم آجلا”.
الوضع يتعفّن أكثر فأكثر والمطبّعون أذلاّء يؤدّون فروض الطاعة لتاجر مجنون لعلّ الله يبعثها غمامة تُمطرهم فحولة ورجولة. وتبقى غزّة صامدة بفضل مقاومتها الأبية وتبقى فلسطين بوصلة الأحرار في كلّ العالم.