بقلم: د.خالد شوكات
قام الجنرال كنعان إيفيرين سنة 1980 بانقلاب عسكري في تركيا على النظام الديمقراطي.
وفي سنة 2012 بدأت محاكمته برفقة طغمته، وانتهت المحاكمة بإصدار حكم عليه بالسجن مدى الحياة.كانت نهاية بائسة لرجل اعتقد ان الزمان لن يطاله، ولكنَّ التاريخ كذّب توقعاته.
وقبله بعشر سنوات قام الجنرال بيونيشيه بانقلاب عسكري دموي ذهبت ضحيته الرئيس المنتخب ألينيدي، وانتهى هذا الطاغية ملاحقا من العالم بأسره، ولولا الحس الوطني للقيادة التشيلية لانتهى الرجل في السجون البريطانية، بعد ان اعتقلته سلطات لندن وهو في رحلة علاجية وقامت المحاكم الانقليزية بملاحقته جراء تهم تتعلق بالتعذيب وانتهاك حقوق الانسان، وهي تهم لا تسقط بالتقادم.
وبمقدور الباحثين في هذا الشأن، العثور على عشرات بل مئات الحكام أو شركاء الحكم وعناصره في أنظمة استبدادية، جرت ملاحقتهم او تلاحقهم الى اليوم تهم بسبب جرائم تعذيب وانتهاكات للحريات وحقوق الانسان، حوّلها القانون الدولي والكثير من القوانين المحلّية، الى جرائم ضد الانسانية، لا يرتبط التحقيق فيها او ملاحقة أصحابها بالحدود الوطنية، بل اضحى المشتبهون بها مطلوبون للعدالة الدولية، وللعدالة في عديد الدول الراقية التي جعلت من القانون الدولي الانساني في مكانة تعلو قوانينها الوطنية، ومن هنا جاء اعتقال احد الضباط السوريين مؤخرا في ألمانيا، والحكم عليه بالسجن لسنوات طويلة جراء ثبوت ضلوعه في جرائم تعذيب وانتهاك لحقوق الانسان.
وهو الأمر الذي اجبر أيضاً المئات من قادة أنظمة فاشية ونازية واستبدادية على التنكر لعشرات السنين في دول امريكا اللاتينية وغيرها، هروبا من العدالة، لكن العدالة طالت الكثير من بينهم حتى وهم في أرذل العمر، وأنهوا شيخوختهم في السجون المذمومين مدحورين.
وفي بلادنا، ولو لا نهج المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، التي تعثر مسارها للأسف في نهاية الامر، لوجد عديد الضالعين في جرائم التعذيب وانتهاك الحرّيات وحقوق الانسان، التي ارتكبت في عقود الحكم الفردي التسلطي، انفسهم في غياهب السجون، ولكن الرغبة في طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة في سياق نظام ديمقراطي تعددي حقيقي جعل العفو أسبق، وهكذا جرى تفادي الوقوع في الكثير من حالات التشفي والانتقام، مثلما جرى في دول اخرى، غير ان ما حدث مرة قد لا يتكرر دائما، ولهذا كان على قوات السلطات العامة ومرافقها وما يزال، واجب العظة والاعتبار مما سبق، والحذر بالتزام الصارم باحترام القوانين، وفيّ مقدمتها تلك المجرمة لمثل هذه الخروقات، وعدم الانجراف تحت اي ظرف سياسي او غيره للوقوع في المحظور، الذي لا يسقط بالتقادم كما سبقت الإشارة، وان لا تحشر نفسها مجددا فيما يجعلها مستقبلا عرضة للمتابعة والتحقيق والملاحقة والادانة والعقوبات الوطنية والدولية لا قدر الله.
إن الانحراف عن الديمقراطية غالبا ما كانت كلفته غالية، وقد اصبحت اكثر ارتفاعا وصرامة بتطور المنتظم الاممي والمجتمع الدولي، وتحول القانون الدولي الى قانون علوي، خاصة في مجالات الجرائم ضد الانسانية، كجرائم التعذيب وقمع الحرّيات والانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان، ولهذا فقد اصبح الكثير من الطغاة والمستبدّين لا يستطيعون مغادرة بلدانهم خوفا من المتابعة الدولية، كما اصبح عديد مساعديهم ورجالهم موضوعين على قائمات دولية سوداء يخشون التوقّف في مطارات العالم والقيام بأبسط المعاملات التي يتمتع بها عامة المواطنين، بل لعلَّ من اهم ايجابيات العولمة هي “تعولم” منظومات الدفاع عن حقوق الانسان والمناخ والبيئة، الأمر الذي ضيّق الخناق على الأنظمة الاستبدادية وجعل المستبدين يفكرون ألف مرة قبل المضي في تنفيذ مشاريعهم.
إن تبني بلادنا للديمقراطية بعد الثورة، دفع باتجاه ظهور الحاكم المطمئن، الحاكم بالمعنى الدستوري والقانوني، والحاكم بالمعنى الشعبي (اي الأمن والبوليس وكل من يرتدي الزي الرسمي)، أي الحاكم الذي يحترم الدستور ومنظومة الحرّيات وحقوق الانسان، ولا يجرؤ على تجاوز القواعد الديمقراطية، وهو ما جعله حاكماً لا يخشى احدا في الداخل والخارج خلافا للمستبدين، ولا يخاف ملاحقة الان او غدا، وفي حدود الوطن وخارجه..
علينا ان نكون على وعي بهذا الجانب المضيء من الحكاية وان لا نغتر بشعبية او مسايرة هي في كل الاحوال مؤقتة، حتى لا نجد انفسنا مجددا امام ذات النهايات البائسة.
