
قبل سقوط حائط برلين في نوفمبر 1989 كتب المفكر الامريكي فرنسيس فوكوياما (Francis Fukuyama)مقالا في الصحف الامريكية اثار تعجبا و اعجابا كبيرين لدى المفكرين والسياسيين سيما وان صاحبه كان مستشارا للرئيس رونالد ريغان، لكنه اثار ايضا تحفظات وانتقادات عديدة.
في هذا المقال الذي تحول الى كتاب صدر سنة 1992 تحت نفس عنوان المقال المنشور سنة 1989 “نهاية التاريخ والرجل الاخير” وحقق نجاحا منقطع النظير وترجم الى جل لغات العالم، يطور فوكوياما نظرية ان التاريخ قد انتهى بسقوط الإمبراطورية السوفيتية وأن التقسيم شرق/ غرب اصبح من الماضي، والصراع الايديولوجي بين الراسمالية والشيوعية قد تبخّر ولم يعد هناك غير عالَم وحيد ستنتصر فيه الديمقراطية الليبرالية لا محالة وتعمّ كل دول العالم.
بعض منتقدي فوكوياما اتهموه بتمجيد المنوال الليبرالي الامريكي في كتابه-الحدث، فيما اعتبره اخرون مجرد محاكاة للنظرية الماركسية، وهي مفارقة، التي تقول ان التاريخ سينتهي بانتصار الشيوعية التي سوف توحد العالم بعد ان تقضي على الطبقات والفوارق الاجتماعية.
لكن النقد الاشدّ لفوكوياما جاء من طرف أستاذه صمويل هنتغتون (Samuel Huntington) الذي كتب مقالا اتهم فيه نظرية طالبه السابق بالسذاجة قبل ان يحول هو الآخر مقاله الى كتاب لاقى رواجا عالميا واثار جدلا مايزال متواصلا.انه كتاب “صراع الحضارات” الذي يطرح فيه نظرية ان بعد الحرب الباردة لن تتوقف الصراعات لكنها لن تكون متمحورة حول الأيديولوجيات بل سيكون محوروها الاختلاف الثقافي والحضاري.
رغم الرفض الذي لاقته نظرية هنتغتون الا ان الاحداث التاريخية بدت وكانها اثبتت صحتها، من ذلك ان العملية الارهابية 11 سبتمبر/2001، واجتياح العراق وحرب الشيشان و ملاحقة الروهينغا وصولا إلى داعش ومرورا بالحرب الليبية…، كلها صراعات وازمات تمحورت حول عنصر الاختلاف الثقافي.
والسؤال اليوم هو: هل يمكن اعتبار حرب روسيا على اوكرانيا تندرج ضمن صراع الحضارات التي بشر بها هنتغتون ام انها تعيد التاريخ من جديد وتنهي بالنتيجة نظرية نهاية التاريخ العزيزة على فوكوياما؟
لنذكّر هنا اولا ان الحرب الدائرة رحاها اليوم بين روسيا واوكرانيا ليس سببها اختلاف ايديولوجي فقد انتهت الايديولوجية في الفضاء الجغرافي السوفييتي القديم بعد انفجار الإمبراطورية السوفييتية منذ اكثر من ثلاثين سنة.
كما لايمكن ثانيا ان يكون سبب هذه الحرب اختلاف ثقافي لان الشعب الروسي والشعب الاوكرانى يتقاسمان نفس ذات الثقافة بل يكاد ان يكونا شعبا واحدا
واذا، فما هي الدوافع الكامنة وراء هذه الحرب؟
هناك في نظرنا ثلاثة اسباب رئيسية:
اولها، وقد وقفنا عنده سابقا، مرتبط بشخصية الرئيس الروسي بوتين الذي ما زال يحمل ارث الحرب الباردة وتحركه ارادة اعادة المجد المفقود لروسيا العظمى.
اما ثانيها فانه ورغم الوحدة التي تظهرها اليوم اوروبا والغرب عموما والتعبير عن التضامن الكامل مع اوكرانيا هناك تراخ وتشتت وانقسام في الجسم السياسي الاوروبي وكانت آخر مظاهره انسحاب انجلترا من الاتحاد الاوربي، وهو الانقسام الذي عملت وتعمل القوى العظمى الراسخة مثل الولايات المتحدة الامريكيه او الصاعدة مثل روسيا والصين على استغلاله لتحقيق مصالحها.
ثالث هذه الاسباب يتمثل في ما يسميه فوكوياما ب”القلق الديمقراطي” الذي اصاب الغرب بعد سقوط المعسكر الشيوعي ما احدث نفورا في المجتمع من المنظومات السياسية القائمة والانجذاب احيانا الى أنظمة اوتوقراطية تسلّطية مثل النظام الروسي او الصيني.
لكن فوكوياما يعود ليؤكد في كتابه الشهير ان الديمقراطية الليبرالية ستنصر في الاخير وان بعد حين.
