نشر هذا المقال في موقع العربي الجديد لكاتبه محمد احمد القابسي
استقالت رئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس من منصبها رغم مضي حوالي شهر ونصف الشهر فقط على تسلّمها مسؤولياتها، والأهم اعترافها بعجزها عن مواصلة عملها في ظروف عادية، مشكّكة في إمكانية نجاحها في تنفيذ وعودها أمام الشعب البريطاني.
وصف الإعلام الغربي ما جاءت عليه ليز تراس بأنه غير مسبوق، تبعاته بوادر أزمة سياسية كبيرة في بريطانيا، وقد تكون تداعياتها قد بدأت، ولكن الأمر يتنزل في سياق التقاليد المتوارثة بالديمقراطية العريقة التي تحتّم على المسؤول أن يستقرئ المنجز واقعياً، وأن يستخلص النتائج، وأن يتصرّف وفق ما يمليه عليه ضميره “الصّاحي”، ليضع المصلحة العليا لبلاده ولشعبه فوق المصلحة الخاصة. وللوهلة الأولى، يمكن القول إن رمزية السرعة التي اتُّخذ بها قرار الاستقالة لا تحيل على فعل التسرّع بقدر ما تصدر عن رغبة مسؤولة في تجنّب مزيد من إضاعة الوقت، ووقت البريطانيين أهم من وقت رئيسة الحكومة، ولا يمكن لها ولا لأي مسؤول في فريقها أن يسمح لنفسه بأن يمضي في إضاعة وقت مواطنيه، أو أن يغرقهم في الوعود الشعبوية الهلامية والسريالية، على عكس ما يحدث عندنا في منطقتنا العربية. ولعل النموذج التونسي الحالي، وفاعله الأول قيس سعيّد خير دليل على النهج السياسي المضاد لما أقدمت عليه رئيسة الوزراء في بريطانيا، وما عقب ذلك من قراءات وردات فعل في بريطانيا وخارجها.
ولأن المساحة هنا لمقال رأي محدودة، لا يمكن أن يتسع الاهتمام فيها لظاهرة سرعة استقالة المسؤول العربي عند عجزه عن الفعل المراد، وتحقيق النتائج الملموسة لوعوده التي التزم بها أمام مواطنيه، فإن هذه الأسطر تكتفي بالتوقف وباستخلاص دروس السياسة في تونس منذ استقلال البلاد (1956) وصولاً إلى الراهن البائس، حيث قوس استثنائي في تاريخ التونسيين، لا أحد يعرف منهم متى سيغلق هذا القوس الغامض، رغم تراكمات الفشل والعجز وغياب الرؤية.
يتمنّى التونسيون أن يقف قيس سعيّد عند رمزية استقالة ليز تراس، وعند المحطات السياسية المفصلية في تاريخهم الحديث منذ الاستقلال ليستخلص الدروس
يقف التونسيون اليوم وبلادهم على حافّة الكارثة، وقد عيل صبرهم وتفاقمت عذاباتهم وهم يلهثون في الساحات والمحلات، بحثاً عن مواد أساسية لحياتهم المعيشية، مفقودة إلى إشعار آخر، ناهيك عن غد غامض لا يعرفون كيف ستؤول فيه أوضاعهم وأوضاع أبنائهم، وقد غابت السياسات الاستباقية والاستشرافية لرجلٍ منحوه صكّاً على بياض، على أمل أن تتغير أحوالهم نحو الأفضل، وأن يتحقق معه حسب ما وعد بذلك الشعار الذي رفعوه في ثورتهم “حرية، عدالة، وكرامة وطنية”. يتمنّى التونسيون اليوم أن يقف قيس سعيّد عند رمزية استقالة ليز تراس، وعند المحطات السياسية المفصلية في تاريخهم الحديث منذ الاستقلال 1956 ليستخلص الدروس، وذلك من أبجديات العمل السياسي، حتى لا يوصلهم إلى ما وصلوا إليه من بؤس وتجويع وفقدان الأمل في المستقبل الزاهر، ولكن الرجل، بما أنه لا يسمع ولا يرى، قد قطع مع الحاضر الذي فيه ليز تراس ومع الماضي، ليظل يملي مراسيمه وقوانينه التي يكتبها وحيداً بطريقة فوقية، قافزاً على الواقع لتصبح النهايات مأساوية، وذلك ما تمضي فيه البلاد.
الذين حكموا تونس من بورقيبة إلى قيس سعيّد مروراً بزين العابدين بن علي والباجي قائد السبسي يدشنون حكمهم بوعود مثالية خلابة، ذات سياسات إيجابية بطابع إنساني واقتصادي واجتماعي، يؤكّد عزم الدولة ورغبتها في بناء دولة اجتماعية يتمتع فيها الجميع بكل حقوقهم السياسية والحقوقية والتعليمية والاجتماعية، تحقيقاً للعدالة والعيش الكريم لكل فئات الشعب، خصوصاً تلك الفئات المفقرة والمهمشة.
ومع مرور الأيام والأشهر، تتبخّر الوعود وتُنسى الخطب والشعارات أمام واقع مرير كرّسوا فيه سلطة الفرد وتسلّطه وتنزله منزلة “المقدّس” الذي لا يأتيه الخطأ من أمامه أو من خلفه، فالحبيب بورقيبة (1956-1987) حظي بشعبية وتبجيل وتقدير من التونسيين لم يشهده غيره من حكامهم، ولا يمكن إنكار المنجزات الحضارية والاجتماعية التي تحققّت لتونس المستقلة حديثاً في عهده. ومع تقدّمه في العمر وتمسّكه وأنصاره بخرافة الرئاسة مدى الحياة وسلطة الفرد الواحد، أضاع الرجل وهو في أرذل العمر منجزه التاريخي ورصيده السياسي والحضاري، ليموت منسياً، أكبر أمانيه أن يتمشّى قليلاً خارج سجنه (دار المحافظ في المنستير) لاستنشاق الهواء النقي، وإن أمكن قراءة الفاتحة على ضريح والدته، وكان ذلك آخر ما رجاه المجاهد الأكبر من بن علي، وزيره الأول وابنه البار، كما يقول، الذي انقلب عليه. ولم يختلف الأمر مع بن علي، فقد رُفع على الأعناق ليلة السابع من نوفمبر / تشرين الثاني 1987 بصفته رئيس تونس الجديد، منقذ البلاد والعباد وصانع التغيير المبارك الذي سيحقق الحرية والكرامة والرفاهة للتونسيين، فلا رئاسة مدى الحياة، ولا مجال لحكم الحزب الواحد، ولا تهميش للمرأة والشباب، ولم تمض الأيام بعيداً ليتحوّل صانع التغيير إلى ديكتاتور متمرّس، ووحش سياسي، بتعبير أنطونيو غرامشي، يحكم البلاد بقبضة من حديد، قوامها البوليس والمافيات وأباطرة التهريب والفساد، لتصبح تونس أسرة والأسرة تونس.
وقد انتهى بن علي إلى ديكتاتور مرتبك خائف هارب من بلاده، ليموت منسياً هو الآخر ومقبوراً في المنفى.