
أعرف وأعترف، فمثل هذا العنوان لا يشجّع على القراءة وليس فيه شيء من التشويق بالاستفهام، ولا من التنشيط بالفكاهة، ولا من الترغيب بالأمل. ذلك أنّ مجرّد ذكر القبر، بصيغة المفرد قبل المثنّى وقبل الجمع المؤدّي إلى المقبرة، يرهب وينفّر ويحبط ويوجع. ولكنّي مصرّ عليه، وهكذا أحببته إذ لا يرتقي إلى معناه تعبير غيره. وهل الموت إلاّ نهاية وبداية أو تأشيرة عبور.
واللبيب المتابع للأحداث، بين يومين من نفس الشهر، شهر أفريل، بين ذكرى وفاة في ثامنه منذ سنوات، ونعي بعد يوم من عشرينه منذ أيّام، يدرك فورا المقصوديْن. وهل هما إلاّ بورقيبة والبابا، رحمهما الله مع كافّة المؤمنين.
قضى “حبيب تونس العزيز علينا” سنوات في تشييد قبره الأعظم وروضة آله، مخترقا بقوّة السلطة والجرّافة مقبرة المنستير، منفقا بلا حساب على المآذن والقباب وعلى الرخام المفروش والقائم والمنقوش وعلى حديد السياج والأبواب، والبلاد غارقة في أزمة ماليّة جرّاء فشل التجربة الاشتراكيّة. ومن يقف أمام جنون العظمة إذا بلغت الإرادة “كن فيكون”؟ صدّق من قال له: ” يجب ألاّ تنتهي الأشغال ليطول العمر”. فإذا بلغ أجله وجب أن يتناوب شباب الولايات على رفع نعشه في جنازة ماشية من العاصمة إلى مثواه الأخير.
وعكس هذا تماما طريقة أخرى للخلود بأبسط ما يكون، لقد أوصى الباب فرنسيس، حبيب الشعب، إذا مات بأن يرفع جثمانه في صندوق مكشوف لا يرتقي إلى صفة النعش وأن يترحّم عليه مودّعوه بآخر نظرة إليه مسجّى على الأرض بكنيسة القدّيس بطرس وأن يدفن خلافا للعادة في كنيسة مريم الكبرى في التراب، لا في تابوت، دون أن يكشف عن المتبرّع بتكاليف القبر البسيط.
كان مثالا وقدوة في البساطة، مجنّبا الفاتيكان فساد التبذير وبهرج المراسم. وكانت رسالته المضمونة الوصول إلى القلوب رسالة نبيّ يدعو مدى الحياة إلى المحبّة والسلم ويدعم قضايا الحقّ والعدل والحرّية والحوار والتعاون. حتّى كان آخر تصريح له تعاطفا مع غزّة وتجريما للكيان.
وبالمقارنة بين الرجلين وبين القبرين أضمّ صوتي إلى رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وغيرهما لأقول بكامل الأسف والمرارة إنّ الإسلام في الغرب لا في الشرق. وقد أضيف أنّ سيّد المرسلين لو بعث فينا اليوم لما عرفنا ولما عرفناه. ومن قبل تركه أصحابه قائما. فأيّ الرجلين أقرب إلى الله، أصاحب القصر أم صاحب القبر؟ أمن أمر بنقش مدائح “سيّد الأسياد” أم من استكفى بكلمة اسمه، كسائر العباد؟
رحم الله الجميع. ورحم أحد كبار أساتذتنا عندما سئل عمّا يريد أن يكتب على الشاهد، بعد عمر طويل، فأجاب: “هذا قبر محمّد اليعلاوي رحمه الله”.