
بهذا العنوان المعرّب أقصد النخبة العالمة وأتساءل عن وجودها في تونس فلا أجدها للأسف. ذلك لأنّ الظروف لم تتوفّر لوجودها، لا قبل الاستقلال زمن البايات والاستعمار ولا بعده في حكم الحزب الواحد وإن سُمح بتعدّديّة شكليّة سرعان ما انقلبت إلى الصراع والتآكل.
ومن تلك الظروف حرّية التعبير والتفكير عبر منابر التعليم ووسائل الإعلام وفي مجالات الثقافة من آداب وفنون مؤطّرة برؤية ومؤسّسات وتشريعات ومشجّعة بحوافز وجوائز.
وإن برزت أسماء فبمجهود شخصيّ. وقد غادرنا السابقون وانسحب اللاّحقون فإذا بنا بين جيلين، جيل مؤسّس لتونس الحديثة قد انقضى وجيل متردّد يخبط خبط عشواء. وهذه ثلاثة أمثلة من نتائج الفوضى الهدّامة. الأوّل هو بيت الحكمة بمحاضراته ومنشوراته على غرار أيّ دار ثقافة وأيّ دار نشر . والثاني مدينة العلوم في حدود الأنشطة العلميّة كليلة النجوم، والثالث مدينة الثقافة التي أكلت ميزانيّة الوزارة على حساب دور الثقافة في العاصمة والجهات، فهي إمّا فارغة بعنوان ” لا نشاط لمن تنادي ” وإمّا معطّلة من جهة البنية والتجهيزات. والناشطة منها تواكب رغائب الشباب في اللهو لا في الجدّ، وفي الغناء والرقص لا في الأدب والفكر. والقاسم المشترك بين هذه الأمثلة هو إهدار المال العام. ومثلها المهرجانات التي تفوق أيّام السنة، ومنها نموذج” أيّام قرطاج” التي كانت سينمائيّة لا غير، فأصبحت متفرّعة إلى مسرحيّة وموسيقيّة وعرائسيّة وربّما تشكيليّة وسركيّة. والمعذرة إن أخطأت في السرد والنعت وكأنّي استحضر مهرجان البسيسة ومهرجان الهريسة ومهرجان الزهر ومهرجان الرمّان فضلا عن المهرجانات المشهورة بالعقود المتجدّدة مع نجوم “العربونيكس” من هنا وهناك.
هذا كلّه لا يصنع نخبة بل الجامعة نفسها يمكن أن تخرّج دكاترة، دون تلميح إلى الشهائد المزوّرة أو المباعة، ولكنّها لا تكوّن مثقّفين. وقد شهد أكثر من شاهد من أهلها على تدنّي المستوى حتّى في لغة الاختصاص وفي الإنتاج المكرّر المجترّ. هؤلاء لا يؤثّثون ندوة مستقطبة، فيها فكر جديد ونظر عميق ونقاش مفيد، وإنّما يجرون وراء المكافأة بتغيير عنوان نفس المحاضرة . وأسهل منها تقديم كتاب. ولكن في الهمّ ما يختار أمام سيطرة الطبل والمزمار. ورحم الله الملتقيات الجهويّة واللجان الثقافيّة والنوادي العلميّة.
ويا حسرة على الإذاعة والتلفزة اللّتين كانتا في سبعينات القرن الماضي تزخران بالبرامج الثقافيّة والحوارات مع “الكبار ” في الأدب والتاريخ والحضارة والفنون فصارتا تزخران بما يسمّى في الإذاعات الخاصّة – وهي مصدر العدوى- بالحصص التنشيطيّة القائمة على الإثارة والمغرية بالجوائز والهادفة إلى الإشهار الذي هو سبب الدمار.
وقدري أنّي مخضرم بين جيلين، بين جيل محمد الطاهر بن عاشور وعثمان الكعّاك وسليمان مصطفى زبيس ومحمد المرزوقي والشاذلي القليبي ومحمود المسعدي ومحمد اليعلاوي ومحمد الطالبي وفرحات الدشراوي ومحمد الحبيب الهيلة وحمّادي الساحلي وهشام جعيّط وعبد الوهّاب بوحديبة وتوفيق بكّار ومصطفى الفارسي ومحمد العروسي المطوي ومحمد مزالي والبشير بن سلامة وجعفر ماجد ونورالدين صمّود وأحمد اللغماني وأمثالهم من أساتذتي وبين جيل جديد لا أحفظ منه اسما ولم أتبيّن له رسما.