
“جاكراندا”، العمل المسرحي الجديد-والثاني في مسيرته- للثنائي المتشكل منذ بضع سنوات، من عبد الحليم المسعودي ونزار السعيدي، على التوالي، كاتبا ومخرجا، عمَلُ غوصٍ وغُموضٍ والتباسٍ ، يؤكد بقدر ما يدحض ويُخفي بقدر ما يَعرض ليُخرج في النهاية الى دائرة الضوء الأسئلةَ الاساسية الملقاة جهرًا او خِفية على المجتمع التونسي. إنه مسرح جهد وإجتهاد متواصلين يفرض إعادة التفكير في عملية الابداع المسرحي في علاقته بالسياسة ما-بعد-الالتزام والأدلجة.
نحن بلا شك عند تجربة فنية مهمّة، من صنف تلك التجارب التي تضع المشاهد على حبل مشدود بين الإدراك وعدم اليقين، بين التحقق والتشكك، بين الاحساس بالغُنم والحصول على الّلا شيء، ولكنها في النهاية تجربة بنّاءة تضخّ دما جديدا في الحراك المسرحي الذي انتهى منذ مدة الى الاجترار والتكرار الذاتي.
يؤكًد هذا العمل توافق رجلي الثنائي وانصهارهما ضمن نفس الاهتمامات الفنية يدفعمها معًا نفس القلق ونفس الشاغل الوجودي، والذي وشى به منجزهما المسرحي الاول، “تائهون”، منذ صيف 2022 في افتتاح مهرجان الحمامات.
ويدحض العمل الجديد، قلنا، في نفس الوقت، كل ما قد يستقر في ذهن المشاهد من “دروس” او يقفز إليه فكره من “استنتاجات” سريعة تحاول تثبيت هذا الثنائي تحت مسمّى متعارف او تحت مُلصق ملحوظ. فمسرح المسعودي-السعيدي لا يبحث عن إنتاج فرجة للتسويق، ولا يهمّه ان يخرج المتفرج من العرض ب”صورة تذكارية” تكون مكافأة لصبره وتكبّده عناء ساعتين أو يزيد قليلا من “فرجة” ترفض ان تنتهي.
“جاكراندا”…أي سرّ في ظلال تلك الشجرة المصطفّة على جانبي شوارع المدينة تهفو على أرصفتها بين كل منتصف ربيع وبداية صيف، تنثر ازهارها الزرقاء الفاقعة ؟ أي يد أتت بهذه المورِقة الشامخة الغريبة من تخوم غابات البيرو أو البرازيل لترمي بها بين نباتات الأرض الأهلية الأليفة من نخل وزيتون وخرّوب؟ لا تنتظروا جوابا قاطعا عن هذه الاسئلة من المسرحية، لانّها سوف تأتي لامحالة-إن أتت- في شكل سخريّة لاذعة.
السخرية كعنصر تأسيسي
السخرية من ثوابت تجربة المسعودي-السعدي، وهو معطى اساسي في مقاربتهما الإبداعية ومفتاحهما السحري لولوج المدينة حيث “العقدة المستعصية” التي يجب قطعها أو الموت.
تلد السخرية في ظل المفارقة بين السياق الذي يحدده التطور الدرامي، وبين منطوق الشخوص التي تعبّر عنه فجوة عميقة متعددة الأبعاد: فجوة جغرافيا، فجوة خطاب، فجوة انتماء طبقي…، فجوة تؤدي الى فقدان كل اتّساق وإلى ضياع كل العلامات التي تمكًن من الوصول الى ادراك البديهيات. ليست هناك بديهيات في هذا المسرح. رأينا ذلك في “التائهون” وتحققنا منه في “جاكراندا”. لأن البديهيات يحددها التطابق بين عناصر السياق والعبارة والمدلول. وهذا غائب-مُغيّب؟- يترك مكانه بلا هوادة الى زعزعة كل اليقينيات، فيصبح كل شيء واردا وكل شيء محلّ إعادة نظر وما كان “غنيّا عن القول” يصبح فاقدا لأي معنى بسبب قول “بربريّ” ٱت من مكان ٱخر، ومن زمان ٱخر. انهم”البرابرة قد وصلوا” (1)
أحداث المسرحية- إن أمكن الحديث عن “أحداث”-تدور في مركز اتصالات، في قلب المدينة، في قلب هذا العالم المعولم، في قلب عالم الاتصال والتواصل المرموز له بالهاتفية. قصّة صراع بين أم وابنها على خلفية مشاركتها في قتل زوجها من قِبَل اخيه وزواجها منه للإستحواذ على مركز النداء. على نسيج هذه القصة الفضفاضة التي تذكّر ب”هاملت” ويليام شكسبير تلتصق اجزاء أخرى لا تكتمل لقصص العاملات في المركز تحكين معاناتهن الهرسلة والازدراء والاستغلال بكل انواعه.
المسرحية لا تستعيد قصة “هاملت” وإن استحضرت كامل عناصرها. لكنها تعيد ترتيب اهتمامات العمل الشكسبيري وتعكس اسسه القيميّة التي بُنيت عليها مسرحيته الشهيرة. التراجيديا لن تبقى في ظل “جكارندا” المسعودي-السعيدي”قضية ملوك” (2) لأن الملوك لم تعد لها وجود ما دامت قد فقدت خطابها وتحوّلت إلى عبيد لملوك آخرين اقوى سلطة وأكثر جشعا، إنمّا التراجيدية اصبحت مآل الناس القليلين (3) من أمثال هؤلاء العاملات الكادحات واللاتي، وإن متن ميتةً هامشيّة، فإنهن ستعدن إلى الحياة لانّهن يمتلكن خطابا ويحملن آمالا تتجدد باستمرار عبر من سوف تأتين حتما بعدهنّ كما تورق كل ربيع تلك الشجرة العجيبة، الجكارندا. كل العمل الدرامي للمسرحية مبني على هذا السؤال المتفرّع: هل لي خطاب-وإذن-هل لي مكان، هل لي هُويّة…-وإذن-هل لي وجود؟
ثابت العزلة والانفصال والعبثية
“جاكراندا” تؤكد ثابتا آخر من ثوابت مسرح الثنائي المسعودي-السعيدي. إنها عزلة الشخصيات وانقطاعها عن واقعها المحيط. شخصيات في صورة أضداد-ابطال يظهرون على المتفرج في شكل بورتريهات متقطعة غير مكتملة. شخوص تائهة بلا هويّة، يُلقى بها في وضع بلا مَخرج فتعيش وحدتها كمحنة مؤلمة رهيبة تتكرر من شخصية إلى اخرى ولو بصفة مغايرة كل مرة. تحاول تلك الشخوص مقاومة نهايتها المعلنة بسلاح خطابها المتجذّر في واقع هو في تعارض مع خطاب الواقع المسيطر. تعارض يفضي سريعا الى انفصال يبرز أكثر هنا مما برز في “التائهون”، لأن استحالة التخاطب والتحاور والتواصل تكشفها وتضخّمها خصوصية الوضع الدرامي المتمثل في مركز اتصالي. من هذه المفارقة المتفجرة المتمثّلة في العجز عن التواصل في مركز اتصال، يتشكّل واقع العبث الذي يستولي شيئا فشئا على المسرحية ويتمركز في مفاصلها الكبرى ليضيًق الخناق على شخصياتها ولا يترك لها غير خيار الموت.
تكشف “جاكاراتا” عن ابعادها العبثية مثلما كشفت عن ذلك “تائهون” وتضع شخصياتها منذ البداية في صراع غير متكافئ ضد قوى جبارة خفية او مخفية، ثم يحتدّ الصراع فيحوّل إلى كرة من الطاقة او إلى “قطار ينطلق في مكانه”( 4) يعيد صياغة مفاهيم الزمن والحركة والسببيّة. عندها تتجه الدراما نحو البحث عن رؤى التناغم بعيدا عن العقلاني، وعن تجاوز التعارضات الثنائية المفتعلة والمفروضة بين الحقيقة والخيال، بين الخير والشر، بين الاصلي والزائف. كل شخصيات المسرحية هي قطارات منطلقة في أماكنها. في حالة بحث عن الرمز السري الذي يمكّنها من الانفلات من جاذبيات الافتعال والكذب والتزييف التي تبقيها معزولة محتجزة، سجينة.



التحرر و”الأقلمة”
الأكيد ان “جاكاراندا ” تضعنا على حدّ فاصل ضمن تجربتنا المسرحية التونسية وتدعونا الى إعادة النظر في مقاربتنا لعمليّة الابداع والسعي بها نحو تجاوز المفاهيم والتمثيلات القديمة البالية التي اعتدنا عليها عقودا وقد تكون دهورا. ولا مناص من مرور هذا التجاوز المطلوب عبر تحديد علاقتنا بالمدينة. لأن المسرح هو المدينة. والعكس صحيح. والمدينة لغة وإرث مشترك وتخصيب مستمر. والمدينة كما المسرح بحث متصل لتوسيع الفضاء وتنظيمه ومنع احتكاره او السمسرة به.
وإذا كان “المستقبل في الهجرة”( 5) فإن الحرية تكون حتما في “الأقلمة”(6)، اي الانتباه الى الآخر وفتح فضائنا ( مسرحنا ومدينتنا) لاستيعاب اسهام الآخر دون خوف ولا مركّبات.
من هذا المنطلق يمكن ان نرى شكسبير جزءا من إرثنا الحضاري والمسرحي-بالضرورة-، والسينمائي الايطالي فيديريكو فليني، والسربو-بوسني امير كوستوريكا، و الاسباني لويس بونييل… أناسا مبدعين منّا نستوحي من اعمالهم ونأقلمها. انظر كيف تأقلمت شجرة “الجاكراندا” القادمة من بعيد واصبحت تظهر في انجسام كامل مع فضائها الجديد.
لقد نجح الثنائي المسعودي-السعيدي في تقديم عمل، وإن بدا في حاجة الى مزيد من الحبك التقني والايقاعي في عرضه الاول، فإنه حقق الأهم واخرج عملا متعدد الابعاد مزج فيه بين الخطاب اللامتناسب والشاعرية العالية، بين المبالغة المقصودة في اداء الممثلين و الحفاظ على عفوية حركتهم وحضورهم، بين الايماءة المتكلفة والاشارة الدقيقة المعبرة، بين تصوير ضيق الحاضر وتبيان رحابة المستقبل…ورسم في النهاية لوحة مسرحية شفقيّة بظلال من الأزرق والبنفسجي، رأيت فيها شخصيا، وفي ذات الوقت معًا، إعلان نهاية وإذان بداية. اليست تلك معاني الوان زهرة “الجاكرندا”؟
هوامش:
1: مسرحية “البرابرة قد وصلوا” Les barbares sont arrivés للمؤلف البولوني Andrzej Stasiuk يطرح فيها مسالة علاقة المدينة بالهامش
2: “التراجيديا قضية الملوك”La tragédie c’est l’affaire des rois Jean Giraudoux(Electre)3
3 -مسرحية Rosencrantz et Guilden stern sont morts للمؤلف التشيكي-الانجليزي Tom Stoppard والتي يروي فيها أحداث التراجيدية الشكسبيرية “هاملت” كما ر أتها الشخصيتان الثانويتان في المسرحية.
4 – Le train qui démarre sur place” (Manifeste du suerrealisme 1924)”
5-Milan Kundera
6-Gilles Deleuze et felix Guattari عن مفهوم “الأقلمة” أو “الأرضنة”La territorialisation في كتاب “l’Anti-Oedipe”