•يتبقى فينا كلنا جميعا شيئ من بورقيبة، من التزم بسياسته ومن عارضه، من أحبّه ومن نقم عليه. وفي هذه الايام تمرّ 122 سنة على ميلاده…

التقيت الرئيس بورقيبة عدة مرات وفي مراحل مختلفة من حياتي. التقيته طفلا صغيرا، ومراهقا، وشابا يافعا، وكهلا. وفي كل لقاء ترك الزعيم في نفسي شيئا لم يقدر الزمن على محوه، وفي ذاكرتي ما يغذّي ابدا إحساسي أن الرجل كان استثنائيا بكل المقاييس.
كان لقائي الأول بالزعيم وانا لم ابلغ بعد السادسة من العمر. أخذني والدي منذ الصباح الباكر ووأقفني في مقدمة الحشد الذي هبّ من كل نقاط برّ “الزغالمة” في الأرض الواقعة بين قرى القلعة الجرداء وقلعة سنان وتاجروين والجريصة، في البقعة التي نصب فيها نفر قليل من الدساترة يترأسهم والدي بصفته مؤسس شعبة سيدي احمد الصالح الزغلامي ورئيسها منذ سنة 1946، الحواجز لمنع دخول كتيبة من الجيش الفرنسي حاولت التسلل من بلدة حيدرة الحدودية لملاحقة مجاهدين جزائريين لجؤوا للبلاد التونسية، في يوم مشهود كاد يتحول الى مواجهة دامية يستعمل فيها الجيش الفرنسي السلاح على ارض بلد مستقل.
حلّ ركب الزعيم بعد ساعات من الانتظار قادما من القصرين ووقف أمام الجمع يتقبّل الهتافات والتصفيق وزغاريد النسوة بابتسامة عريضة لم تفارق محياه، ثم تقدّم نحو والدي الذي أشار إلي ان أقرأ خطاب ترحيب تفنن هو في كتابته بأسلوبه الزيتوني البليغ وأمضيت انا اسبوعا أكرر كلماته حتى حفظتها عن ظهر قلب. وما أن انتهيت من “تلاوة” الخطاب حتى انحنى بورقيبة ليقبّلني ويربّت على خدي وليسأل والدي إن كنت أدرس فيجيبه “عند المدّب” (في الكتّاب)، فيرد بورقيبة وهو يهزّ بسبابته من أسفل لأعلى مؤكدا بصارمة ودون ان يتخلى عن ابتسامته :”في المدرسة، يا سي يوسف…!”. ثم امتطى سيارته المكشوفة تحت أصوات المنبهات…
تمنيت لو كان بإمكاني الّا اغتسل أبدا فأحافظ على قبلة جلبت لي لمدة طويلة مهابةً واحتراما.
لكن كلمات بورقيبة كانت كافية لتتغير حياة أسرة كاملة وليتخلى والدي عن جزء من أرضه ونشاطه الفلاحي ويستقرّ ببلدة الجريصة حتى يمكّنني من الالتحاق بالمدرسة. وكان والدي خلال كامل سنوات الدراسة، حين يحسّ تراجعا في نتائجي يلجأ سريعا الى تحفيزي بالقول:” لا تنس آش قال لنا بورقيبة !”.
*****

ثم التقيت الزعيم وأنا في سن المراهقة ادرس في المعهد الثانوي بالكاف. كان ذلك في سنوات جدب ومسغبة في أواخر السبعينيات التي أنهت تجربة التعاضد وتسببت في إفلاس والدي وإصابته بجلطة لم يكد يشفى منها.
جمعنا ذات صباح في أواخر شتائي كافي بارد، بعضا من نشطاء الشبيبة الدستورية وثلة من التلاميذ عن جهات مختلفة من الولاية، كاتب عام لجنة التنسيق، عمار غلاب، ليبلغنا ان الرئيس الذي كان مقيما في قصره في أعالي المدينة، يريد الاجتماع بالشباب ليبلغهم أمرا عاجلا وأنه اختارنا لذلك التشريف. لكنه طلب منا ان نردد بين يديه، بحماسة وبلا انقطاع هذا النداء: “حزبك يا بورقيبة !” ثم أوضح لنا ان “بعض الأفراد غير المسؤولين في دواليب الدولة” يريدون استغلال الفرصة اليوم لدفع بورقيبة الى التخلّي عن رئاسة الحزب وفصله عن الدولة.
حضر بورقيبة في المكان المحدد للاجتماع -لم أعد أذكر إن كان في مقر الولاية ام في نزل ماسينيسا ام في غرة جوان. لم يكن ذلك الرجل الذي ابصرته وانا طفل صغير. خطواته بدت ثقيلة وابتسامته الوضّاحة تركت على وجهه المجال لتعبيرة قاسية. اما عيناه فقد فقدتا كثيرا من ذلك الوميض الأزرق الثاقب.
دخل القاعة ولم يكن خلفه غير كاتبه الخاص علالة العويتي يتبعه كأنه ظل شاحب. انفجرنا صياحا عند رؤيته :”حزبك يا بورقيبة…حزبك يا بورقيبة !”.
كان بورقيبة ينصت لهتافنا وتصفيقنا وهو يكتسح الحشد بنظراته في كامل أرجاء القاعة. وفجأة ازاح الكالباك (kalpack ) الكرغيزي الأسود عن بياض رأسه، ورفعه في إشارة لطلب السكوت، ومن ورائه علّاله العويتي يشير عبر حركة تقاطع أيدي إلى التوقف عن الهتاف والإنصات. سكت الجميع وعمّ القاعة انتظار لقول ثقليل. تمتم بورقيبة كلمات لم يسمعها أحد، ثم قال بصوت عال وهو يؤكّد على كل حرف: “الحزب للمناضلين والدولة للمواطنين !”. ثم قام بتعديل الكالباك الأسود على رأسه الأبيض وغادر القاعة تاركا الجميع غرقى في بحر من الشك والحيرة والتساؤل.
أما عمار غلاب فعلّق وهو يضرب كفّا بكفّ: “انتهى كل شيء، بورقيبة فصل الحزب عن الدولة !”. لم يحصل شيء من ذلك وواصل بورقيبة رئاسة حزبه ورئاسة الدولة اللتين بقيتا متلازمتين.
*****
التقيت بورقيبة وأنا في بداية دراستي الجامعية. طلب مني مسؤولو الجهة ان استعد لحضور زيارة بورقيبة كممثل للطلبة الدستورييين لمدينة الكاف، وان أعدّ بالمناسبة “كلمة ترحيبية” لاستقباله في مدينة الجريصة. كان ذلك في بداية السبعينيات، ربما في ربيع سنة 1973.
وخلال تناوله الفطور في منزل مدير المنجم الفرنسي راسين الذي تسبب في موت منجم الحديد مبكّرا بعد أن عرّضه لاستغلال مفرط تحت شعار “الانتاج والإنتاجية” الكاذب، تاركا آلاف الجريصيين ينهشهم الفقر والبطالة بعد ان كانت مدينتهم مركزا صناعيا نشيطا موعودا بحياة أطول، أُشير اليّ ان أقول نصً الترحيب. تملكتني رهبة وانا أواجه نظرات بورقيبة. كان النص مكتوبا في قالب شاعري ما أزال أذكر عنوانه “ربيعان اليوم في مرابعنا” شبّهت حلول بورقيبة بحضور إله الربيع “برصوفون” في الميثولوجيا الإغريقية، دعوته فيه الى الإصغاء الى صوت الشباب ونداء العمال لإخضار منطقتنا التي لم تتخل عن وفائها لبورقيبة. لم يكن احد من مسؤولي الجهة يعرف الصيغة النهائية للنص فلمحت وانا أقرأه وجوها تحمرّ وأخرى تصفرّ. ولما انتهيت لم يكن أحد بمن فيه صاحبه يعرف كيف سيردّ بورقيبة. وربما أحسّ الوزير الضاوي حنابلية بخطر قادم فاستبق ردة فعل غاضبة من بورقيبة وقال مذكّرا: “ابن المناضل يوسف الزغلامي- مشددا على لفظ “المناضل”. لكن الرئيس وقف وأومأ لي بالتقدم نحوه وقال لي هذه الكلمات التي ما يزال صداها يتردد في ذاكرتي. قال وهو يمسك بيدي” أنا عادة لا احب الشعر الحرّ لكن قصيدك اعجبني وربما هذا أدب المستقبل، وبارك الله فيك…!”، ثم قبّلني وربّت على خدي. استرخيت الوجوه بعد ثناء الرئيس على “قصيدتي” وكدت أُحمل على الاعناق في جريصة. واستقبلتني الاذاعة وخصصت لي إحدى منتجاتها البارزات آنذاك حوارا، كاملا وكانت هي الأخرى في بداية تجربتها الشعرية، إنها شاعرة القيروان جميلة الماجري.
لم اتمن هذه المرة ان تبقى القبلة البورقيبية مطبوعة على خدي ربما لأن الشاب قتل فيّ الطفل، لكن تأثير بورقيبة كان أقوى وحوّل على سوء فهم مجرى حياتي لأتوجه دون تخطيط مسبق الى مهنة الصحافة وكتابة الشعر.
*****
التقيت الرئيس بورقيبة وانا صحفي في “جريدة لابراس”، في أواخر الثمانينات، حيث قمت بتغطية زيارتيه الأخيرتين الى ولايتي الكاف والقصرين. تجوّل بورقيبة بين معتمديات جنوب الكاف. توقف في قلعة سنان حيث تنتصب مائدة يوغرطة.
في اليوم الموالي كتبنا، أنا والصديق محمد الميساوي، في عنوان بارز لمقال التغطية: ” يوغرطة الذي نجح يقف عند انجازاته”. بعد اسبوع من الزيارة أعلمنا صلاح الدين معاوي رئيس التحرير ان الرئيس بورقيبة اعجب بمقالنا، وطلب منّا أن نستعدّ لتلقي الدعوة للقائه في قصر قرطاج. لم ترد الدعوة وبقينا أشهرا ننتظرها بربطة عنق معقودة في المحفظة. ثم تحول الانتظار الى مادّة تندّر في قاعة التحرير. وبدأنا ندرك ان شيئا ما لم يعد كما كان في عرين الأسد العجوز.
بعد قلعة سنان زار بورقيبة القلعة الجرداء. وغير بعيد عن المكان الذي التقيته فيه طفلا، رأيته يقف في مدخل البلدة رافعا يديه مشيرا بإصبعه الى نقطة بعيدة لا يراها غيره، ويعلن بنبرة تنبّؤية: “ننس القلعة الجرداء، من الآن فصاعدا هذه القلعة الخصبة..!”.
في القصرين اجتهدنا أنا وصديقي محمد الراشدي، الوالي والنائب السابق، والذي كان معتمدا كمراسل لجريدة “لا براس” في القصرين على إبراز اهمية حضور بورقيبة في ولاية ما تزال تقسمها العروشية. وكان بورقيبة يجمع آخر قواه لإعطاء الدفع الذي يضع الولاية الناشئة على السكة، كما صرّح لنا في مقر الولاية. لكن خبر وفاة الهادي خفشّة، أحد وزرائه المقربين جعلته يقطع برنامجه في مقر معتمدية سبيطلة حيث تولى توزيع مفاتيح منازل على جمع من مناضلي الجهة ومستحقيها. ووقف امامه شيخ كبير بملامح وهيئة أهل ماجر وما ان تسلم مفاتيحه حتى هتف بأعلى صوته: “تعيش يا بورقيبة الأحمر ..!” نظر إليه بورقيبة وهزّ رأسه لأعلى ولأسفل في إشارة منه لقبول التوصيف ثم رسم ابتسامة سرعان ما تلاشت تحت حزنه الواضح، ولم يستطع الحاضرون حوله كتمان ضحكتهم. وغادر بورقيبة القصرين في يومها. وكانت آخر زيارة شعبية له الى مدن داخل البلاد.
*****
التقيت بورقيبة مرات أخرى بصفتي عضوا في الهيئة المديرة للمعهد الرشيدي للموسيقى التونسية، “الرشيدية”، ثم كاتبا عاما لها. كان يرأس الهيئة عبد القادر بوسحابة وكانت تجمع أسماء لها وزنها في المدينة مثل سليم بن مصطفي شقيق الوزير زكرياء، والدكتور بلحسن فرزة، و السفير سليم بن غازي. وكنا دوما على أهبة لتليبة دعوة الرئيس بورقيبة وتقديم حفل على شرفه في مسرحه الجميل بقصر قرطاج.
كان برنامج الحفل منقّى ومصفًى من كل ما قد يثير حساسية الرئيس من نغمات او كلمات تتغنى بعهد البايات او تحيل إليه. وكان يشرف على عملية المراقبة الفنان صالح المهدي الذي يتولى بنفسه تقديم فقرات البرنامج امامه حسب احتفالية معينة ومحفوظة.
اعلمنا رئيس الرشيدية عبد القادر بوسحابة خلال اجتماع عاجل ان الرئيس طلب حضور الفرقة لتقديم حفل سيتم تحديد فقراته مع الاستاذ صالح المهدي. كان ذلك في بداية سنة 1981 وكانت البلاد تعيش على وقع تغييرات سريعة بعد الحادث الصحي الذي تعرض له الوزير الأول الهادي نويرة وأجبره على التخلي عن مسؤولياته بعد حوالي عشر سنوات في القصبة.
كنا ننتظر ان نرى بورقيبة متأثّرا حزينا لما أصاب “عضده الأيمن”. لكنه استقبلنا يقظا، منتعشا ومبتهجا.
أعلن صالح المهدي عن بدء الحفل بعد ان توجّه لبورقيبة بالشكر والثناء على رعايته لأهل الثقافة والفن، دون ان يغفل عن توجيه التحية للماجدة وسيله التي بدت في كامل تألّقها، ثم تقدم وأعطى الإشارة وغنّى مطلع قصيد يقول:
“رأيت الهلال ووجهَ الحبيب *** فكانا هلالين عند النّظر
فلم أدر من حيرتي فيهما***هلالَ السّما من هلالِ البشر…”.
وابتسم بورقيبة وصفّق بحرارة وصفّق الجميع. وتواصل الحفل بوصلات من المالوف ثم حلّت فقرة الاغاني وبورقيبة يزداد انتشاءً، وظهر صالح المهدي من جديد وبدأ في تأدية أغنيته الشهيرة لصليحة “دار الفلك من بعد طول العشرة”. وبدأ بورقيبة يتمايل يمنة ويسرة وهو يرسم دائرة في الفضاء بإصبعه في محاكاة دوران الفلك. وما ان انتهت الاغنية حتي طلب اعادتها مرة ثانية ثم ثالثة.
أدركنا لاحقا ان ما قام به كان تعبيرا عن ارتياح لرحيل وزيره “عضده الأيمن” الذي كاد يفتك منه الأضواء بفضل ما حققه من نجاحات فرضت احترامه داخل البلاد وخارجها. لكن بورقيبة، الحيوان السياسي العنيد، لم يكن يقبل ان يدور الفلك الّا حوله.
رحم الله الزعيم الحبيب بورقيبة المجاهد الاكبر.
