
بوّق البوّاقون، وصرّخ البرّاحون، ونشر النبّاحون: “أسمع وافزع” جحا يبيع جحشه بدينار.
هرع الطمّاعون وسارع السبّاقون عسى يظفر أحدهم بهذه الفرصة النادرة الثمينة: جحش بدينار واحد وسوق الحمير ملتهبة أسعارها ؟
وجاء اليوم الموعود، وتجمّع الخلق حول جحا وحماره ينتظرون تفعيل عرضه المُغربي: أصحيح يا جحا ما سمعنا ؟ ضحك جحا ملئ شفتيه الغليظتين المحقونة بمادة البوتوكس: نعم، نظرا لعلاقتنا التاريخية المتينة وأواصر الأخوة المتوطدة بيننا قررت أن أبيعكم حماري العزيز بدينار واحد، فمن يشتري ؟
صاحوا بصوت واحد: أنا.
قال: أعيدوا ما قلتم، أريد أن أسمع الجماهير كلها تردد بصوت واحد نفس النغمة.
صرخوا وزغردوا وولولوا وغنّوا واهتزّوا ورقصوا:
“يا مهشتكنا، يا مبشتكنا، يا مرقّصنا، يا مزطّلنا، يا مشيّخنا، يا مدوّخنا”.
ولمّا هُدّ حيلُ القوم من الصياح والنباح والرقص والردح (ردُحَتِ الْمَرْأةُ : ضَخُمَ رِدْفُهَا وَسَمِنَتْ أوْرَاكُهَا) نادى جحا: الحمار بدينار والعصا بألف.
قالوا: كيف ؟ هذا غش وتحيّل. لم تخبرنا بهذه الأمر من قبل.
أجاب: بربّكم، هل رأيتم في حياتكم حمارا يمشي دون أن يتلقى الضرب بالعصا ؟ ألم تسمعوا قول المتنبي:
“لا تشترِ الجحش إلا والعصا معه / إن الحميرَ لأنجاسٌ مناكيدُ” ؟

هو جحشي، حمار مثل كثير من الآدميين لا يتحرّك إلاّ بالهمز واللمز ولا يستفيق إلا حين يرتطم أنفه بالجدار ويأكل جسده القراد وترعى فيه البراغيث. تلك هي سُنة الله في خلقه، ولله في خلقه شؤون، ولا مردّ لأمره.
والشيء بالشيء يُذكر.
تشيع قنوات الإعلام هذه المدة أن المغنية الإماراتية أحلام (ميثاء الشامسي) ستختتم الدورة الحالية لمهرجان قرطاج الدولي وقالت إنها قادمة دون مقابل ولكن شرط أن تصحب فرقتها الموسيقية بكامل عناصرها مع فِرَق عملها من تقنيي الإضاءة والصوت والركح ولم لا فرّاشيها ومطببي أصابع أرجلها وحلاّقتها وملبّستها ومزيّنتها.
ورغم ما هو معروف عن المغنية من ثراء وأملاك في الدوحة وقطر والبحرين ومصر وربما في أوروبا فهل يصحّ أن يأتي مرافقوها دون مقابل وأن تدفع هي أجورهم وتتكفّل بنفقات سفرهم وإقامتهم في الفنادق الفخمة ؟
هل أن كل هذا الفيض من الكرم الحاتمي حبّ لتونس وشعبها أم أنه لحاجة في نفس يعقوب ؟ أم هو صُراخ في زمن الصمت ؟

أظن أن الأمر لا يختلف عن حكاية جحا التي أوردناها عبرةً لمن يظن أنه أذكى من الناس جميعا.
فهل سيظل قنديل باب منارة “يضوي على البرّاني” ؟ أما آن له أن ينطفئ ويريحنا من شرّه ؟
إن الإدارة الحالية المكلفة بتسيير المهرجان تبدو حريصة على ترشيد النفقات وحوكمة الصرف العمومي بالنسبة للفنانين التونسيين دون سواهم وتثبت للمرة الألف أن هوّة سحيقة تفصل بين المبدع والإداري “كبُعد الأرض عن جوّ السماء” وأنهما على طرفي نقيض.
إن البيروقراطية العميقة المطبقة على دواليب الدولة تسعى إلى التحكم في الإبداع الفني وأن تقيّمه بمقاييسها المتكلّسة بينما هي فاقدة لأدوات التقييم ولأسباب المعرفة الخاصة بذلك.
ولنا في سهرة الافتتاح نموذج حيّ سنتولّى شرحه بالتفصيل الممل في كتابات لاحقة.