
(من كواليس الدورة 59 لمهرجان قرطاج الدولي)
للتاريخ وليس للتباهي أقول إن أول مرة وطأت فيها قدميّ مسرح قرطاج الأثري كان مساء 25 جويلية 1969 عازفا ضمن أوركسترا مدينة تونس السيمفوني (هكذا كان يُسمى) بقيادة المتعاون الفرنسي Jean-Paul Nicolet بجانب أستاذي المغفور له ديميتر كاراڤيوزوف.
كنا ثلاثة تونسيين فقط ينضمّون إلى هذا الأوركسترا العريق لأول مرة في تاريخه إلى جانب الفرنسيين والإيطاليين والأساتذة البُلغار بمعهد الكونسرفتوار الوطني: الم عبد الباقي الفيلالي على النفير cor والم محمد علي الصفاقسي على البوق trompette ومحمد الڤَرفي على الكمان الوسيط viola ثم التحق بنا بعد أشهر الم أحمد عاشور على آلة الكمان.
كان الحفل هو الثاني في ذلك الموسم بعد الحفل الرسمي الذي نظّمه ملك النرويج Olav V على شرف الرئيس الحبيب بورڤيبة في نزل الهِلتُن وتضمن بطلب منه فالزات ليوهان ستراوس (سير الإمبراطور Marche de l’empereur ونهر الدانوب الأزرق الجميل Le beau Danube bleu) ومتتالية بير ڤيـنت للمؤلف النرويجي إدوارد ڤريـﭫ وموزارت وهايدن.
والذي أذكره من تلك الليلة وظل عالقا في ذهني هو أن التونسي الوحيد من الوفد المرافق للرئيس بورڤيبة والذي شدّ انتباهه الأوركسترا هو الوزير الم أحمد بن صالح. فقد توقف أمامنا هنيهة يستمع بإعجاب ثم التفت إلى زميله الم عبد المجيد شاكر وقال مبتسما: شيء عظيم، لقد أصبح لدينا أوركسترا سيمفوني وفيه تونسيون أيضا.

أما حفل قرطاج فقد شارك فيه عازف الكمان السويسري Blaise Clame الذي أدى كونشرتو لباخ (لا صغير) وآخر لموتسرات (صول كبير) وعزفت الفرقة افتتاحية زواج فيڤارو لموتسارت ورقصات ثراقية للمؤلف البلغاري ستاينوف ومتتالية ترفيه للمؤلف الفرنسي جاك إيبار الذي وضعها في الأصل عام 1930 لمسرحية أوجان لابيش.
كان إقبال الجمهور محتشما إذ لم يحضر الحفل سوى قرابة الخمسمائة متفرّج لكنهم تابعوا باهتمام ما قُدّم فيه وخاصة رقصات البلغاري ستاينوف ذات الطابع الفلكلوري والتي تجمع عناصر الحضارات القديمة الراسخة بهذه الأرض البلقانية بين تركيا واليونان.
في المرة الثانية اعتليتُ المسرح قائدا للأوركسترا مساء 14 أوت 1973 بالاشتراك مع زميلي أحمد عاشور في ختام الدورة العاشرة لمهرجان قرطاج الدولي مع أوركسترا 71 الذي أسسته قبل سنتين وسجلت به موسيقى للإذاعة والمسرح (قريتي، عشتروت، مهاجر بريسبان) والسنما (في بلاد الطررني، وغَدًا).
وقد تضمّنت المطويّة التي وُزّعت على الحضور أسماء المشاركين في العرض من عازفين تونسيين وأجانب ومنشدين ومغنّين شبّان وهم الأختان شيراز وشهناز ومصطفى الشارني وأحمد زرّوق وتصدّرتها مقتطفات من مقال نشره الإعلامي صالح الحاجة في جريدة الصباح بتاريخ 28/7/1973 جاء فيه:
“إن تمكين فرقة 71 من سهرة في نطاق مهرجان قرطاج تشجيع لمواهب الشباب المثقّف وتشجيع للفن الحقيقي ولبنة أخرى نضيفها إلى بناء الثقافة الملتزمة بقضايانا والمؤمنة بآمالنا وطموحنا”.

ومنذ ذلك التاريخ إلى اليوم وعلى امتداد أكثر من خمسين سنة قدمتُ على هذا المسرح عديد العروض بين مسرحيات غنائية (1979-1983-1984) ومنوعات أذكر منها “أصوات الحرية” (1990-1991-1992) و”زخارف عربية” (1993-1994-1995) و”سيني مغنى” (2005) و”يا ليل يا قمر” (2008) و”نفحات صوفية” (2009) وتعاملت بالمناسبة مع أعوان وتقنيين من وزارة الثقافة جلهم يحترم عمله ويلزم حدوده إلا في ما ندر.
بعد غياب خمسة عشر عاما وبمناسبة تقديم عرض “من قاع الخابية” (2025) فوجئت أن مسرح قرطاج الأثري قد تحوّل إلى كباريه في الهواء الطلق وصُدمت بتصرّفات مُستهترة وألفاظ غريبة من قِبل عملة لم تكن لتصدر عن أعوان يشتغلون في جهاز ثقافي.
سأكتفي هذه المرة بذِكر حادثة واحدة وأستكمل البقية في مرات قادمة:
تعلّمت من هذه الواقعة، والعلم لله وحده، “مصطلحا فنيا” جديدا لا يستعمله إلا المنحرفون وأصحاب الغناء الرقيع الذي انتشر في السنوات الأخيرة عبر وسائل الاتصال.
فبينما كنا نقوم بالتمرين الأخير لضبط الصوت قبل العرض دخل شاب يمسك ذراع ميكروفون ووضعه بعيدا عن مكان القيادة فسألته ماذا تفعل قال إني أضع الميكروفون فقلت من طلب منك أن تضعه هناك قال هذا هو مكانه الطبيعي قلت لماذا قال لأن “الشناطر” يقفون هنا. فسألته: ومن هم “الشناطر” ؟ قال ببساطة: المغنّون.
صُعقت من الإجابة الغبية وحضرني مشهد من “رسالة الغفران” للمعرّي بين الجارية وابن القارح لمّا قال:
“ستِّ إن أعياكِ أمري فاحمليني زقفونة
فقالت وما زقفونة، قال أما سمعتِ قول الجحجلول من أهل كفرطاب:
صلُحت حالي إلى الخلف حتى صِرتُ أمشي إلى الورى زقفونة” ؟
الشناطر هي إذن جمعٌ أعرج للكلمة الفرنسية chanteur مثلها مثل شانطي chantier التي تجمع على شوانط وغيرها كثير.
أيقنت حينئذ أني أسبح قسرا في بحر الظلمات وأن الداء قد استفحل ولا ينفع العقار في ما أفسده الدهر. وكما يقول المثل العامي: “إذا خلاّك مولى السانية قلّع وكول”، وافهم يا فهيم.
كانت الوالدة رحمها الله وطيّب ثراها (1924-2010) تقول عن بعضهم “مِن نِفْقْتُه بايِنْ عْشاهْ جابِ السّْمنْ في وَرْقَة” وهو تعبير عامي “من قاع الخابية” يقابل المثل الفصيح “كل إناء بما فيه ينضَح” والذي غالبا ما يستعمل في المعنى السلبي.
الغوثُ يا أهل الغوث، لقد أكلتنا البراغيث.
