سقراط (469/470-399 ق.م.) هو فيلسوف يوناني عاش بأثينا في القرن الخامس قبل المسيح وتوفي باختياره منتحرا بسمّ الشّوكران siguë la بعد أن حَكم عليه أعيان المدينة بالإعدام بسبب أفكاره مثل “الحياة بدون حرّية لا تستحقّ أن تُعاش”. ومن التهم الموجهة ضده: تشكيكه في تنظيم مدينة أثينا وعدم الاعتراف بالآلهة التي تعبدها الدولة وإدخال آلهة جديدة وأيضا من أجل سيرته إذ اتهموه بالتحرش الجنسي وإفساد الشباب.
ورغم أنه لم يترك مؤلفات مكتوبة فهو يُعتبر الأب المؤسس للفلسفة الغربية وأحد أكثر الشخصيات غموضًا في العالم القديم. وقد تناقل تلامذته حِكمه وأفكاره في شكل حوارات يناقش فيها سقراط ومحاوروه مواضيع شتى بأسلوب السؤال والجواب وضمّنوها في مؤلفاتهم خصوصا أفلاطون (427/428-347 ق. م) وزينوفون (430-355 ق. م).
اشتهر سقراط بإعلانه عن جهله التام فقد كان يقول” أعلم أني لا أعرف شيئا” مما يعني أن إدراك جهلنا هو الخطوة الأولى في التفلسف. وقد اقتبس منه العالم والفيلسوف الفرنسي Michel de Montaigne (1533-1592) عبارته الشهيرة “ماذا أعرف” Que sais-je التي صارت عنوانا لسلسلة من الإصدارات المعرفيّة المختصرة في مجالات شتى.
ولأن الفلسفة أسلوب حياة وتمرين على التأمل أو “الحوار مع الذات” كان سقراط يقضي أحيانا ساعات طويلة واقفا دون حراك في ساحات “الأغورا” agora حيث يتجمع الأهالي والفلاسفة للتباحث في شؤون الحياة أو أثناء تجواله في أي مكان من أثينا يتأمل واجما.
كان سقراط في إحدى المرات يخوض نقاشا مع رجل من العامة يبدو غيرَ مهتم بحوار بناء وعاجزا عن إثبات أفكاره فوجّه إلى الفيلسوف صفعة أمام دهشة الحاضرين.
توقع الجميع ردَّة فعل مشابهة، لكن سقراط ظلّ جامدا كما لو أن الصفعة لم تمسّه. فتجرأ أحد تلاميذه وسأله منفعلا: ما هذا الموقف الغريب ؟ فأجاب بعد صمت:
“لو ركلك حمار لا تردّ له الضربة” بما معناه أن لا جدوى من الرد على الغباء بالغباء، وفي ذلك عبرة لمن يعتبر ودرس من الحكمة البليغة لمن يتّعظ.
والمعلوم أن الحمار في جل ثقافات العالم يجسد الجهل والغباء والعناد لذا لم يسوِّ سقراط مقامَه الرفيع بمقام الحمار الوضيع، وهي لا شك إشارة واضحة إلى أن الحمقى يستمتعون بصحبة الحمقى أمثالهم.
وبحسب المثل اللاتيني Asinus Asinum fricat (الحمار يحتك بالحمار) والذي يقابله الفصيح “إن الطيور على أمثالها تقع”، فقد نزّه سقراط ذاته عن الحمار ولم ينزل إلى الحضيض وآثر الصمت على مبادلة العنف بالعنف.
أما الشاعر أبو الطيب المتنبي (915-965 م) الذي كان يتفنن في التنكيل بأعدائه وتهزأتهم فلم يكن له نفس الموقف بل فضّل مواجهتهم فهجاهم وحقّرهم، من ذلك قوله:
وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ / فهي الشهادةُ لي بأنِّيَ كامــــــــــــــــلُ
مَنْ لي بِفَهْمِ أهَيْلِ عَصْرٍ يَدَّعي / أن يَحْسُبَ الهِنْدِيَّ وَهُوَ بَاقِلُ
وباقل هو رجل كان يُضرب به المثل في الجهل والغباء. وفي تفسير آخر الباقل هو البغل ذلك الحيوان الهجين الذي يَنتج من تزاوج الحمار والفرس، والمهم أن الاثنين سيان ولا يختلفان إلاّ في الظاهر.
ويعني الشاعر في البيت الثاني أن أهل عصره (ويصغّرهم للتحقير) أغبياء لا يعرفون الجاهل من العالم ولا الناقص من الفاضل وبالتالي فإن رأيهم ليس له معنى ولا يُعتدّ به.
استحضرت سيرة الفيلسوف اليوناني وموقفه الشهير من الرد على مُعنِّفه ورأي المتنبي في أعدائه وذلك إثر الهجمة المسعورة التي تعرّضت لها، مثل كل مرّة، من قِبل قطيعٍ مُطيعٍ سيّدَه حول عرض “من قاع الخابية” الذي قدّمته في افتتاح الدورة 59 لمهرجان قرطاج الدولي.
وإني لأفضّل الجمع بين الموقفين ولكل حادث حديث، ولكل امرئ من دهره ما تعوّدا.
ولا يزال للحديث بقية.