
الموسيقار د. محمد الڤَرفي
إن تنوع المصادر الصوتية وتكاثرها في العالم الحديث وبالرغم من القوانين الرادعة هنا وهناك تعرّض الناس إلى مخاطر يخشى الأطباء من أضرارها التي تهدد الحساسية السمعية -وربما حاسة السمع بأكملها- وحتى الصحة العقلية.
فقد أثبتت إحصائيات جديدة أن ثمانية ملايين من الفرنسيين يشكون من التلوث السمعي وأن الصخب يتسبب في أمراض خطيرة تكلف المال العام كذا مليارات يورو في العام.
وهذه الظاهرة الخطيرة ليست خاصة بأوروبا بل طاهرة عالمية عامة دفعت الأوروبيين إلى سن قوانين صارمة في هذا الشأن خوفا على أجيالها الحاضرة والقادمة من الطرش.
فأين نحن من هذا ؟يقول الشاعر المتمرّد بشّار بن بُرد في قصيدته الشهيرة “وذات دَلٍّ”:يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
ولئن قال هذا البيت الشهير شاعر فاقد البصر صارت حاسة سمعه قوية في غياب حاسة الرؤيا فهو يدل على دقة التقاط الأذن للحركات الذبذبية الخارجية وإرسالها إلى الأجهزة المختصة في الدماغ لتحليلها وتحديدها دون الحاجة إلى رؤية مصدرها.
فالجهاز السمعي هو ملتقط مثالي للصوت وهو قوي ومعقّد ولكنه في الوقت نفسه هشّ وحسّاس بدءا من الطبلة حتى الدماغ مرورا بسلسلة العُظيمات المكونة لقناة إستاكيوس trompe d’eustache في الأذن الوسطى وحلزون الأذن الداخلية.

ولهذا السبب يُنصح بعدم الجلوس قرب مضخمات الصوت في المسارح والقاعات العامة والاستماع المفرط إلى المسجّل الجوّال في أقصى حجمه الصوتي ووضع الأجهزة المصوّتة ملاصقة للأذن لأن تعريض الجهاز السمعي إلى ذبذبات صوتية قوية من شأنه أن يسبب له أضرارا جسيمة.
ويبدو أن التلوّث السمعي يعود في الغالب إلى نشاطات الترفيه العام وخصوصا الموسيقى التي تبث في الفضاءات العامة بمناسبة الأفراح والأعياد دون مراعاة الآخرين وكذلك إلى الاستعمال المفرط لمنبهات السيارات في التظاهرات الرياضية، وهي عادات مضرة تشترك فيها جميع الدول.
وهذا لا يعني أن الاستماع إلى الموسيقى هو مصدر ضجيج بل إن حجم تضخيمها بأجهزة الصوت وبثها بين الناس بقوة هو الذي يجعلها ضوضائية ومرهقة للسمع. وقد ناشدت الجمعية الطبية العالمية WMA كل الهيئات المحلية المماثلة إعلام الناس بمخاطر هذا التلوث المضر بالقدرات السمعية والذهنية وبالنظام العصبي اللاإراديsystème neurovégétatif وبالاتصال الشفوي والنوم والبراعات بأنواعها كما ناشدت المشرّع في كل مكان سنّ القوانين الرادعة ومراقبة تجاوز القياسات.
هذا من حيث الضجيج الذي صار ملوّثا جديدا للبيئة فرضته علينا الحياة العصرية والذي تستوجب معالجته بأنجع الوسائل حفاظا على رأس المال السمعي للبشر وحتى لا يتحول إلى ظاهرة دافعة إلى العنف.
أما التلوث الفني فمصدره تلك الأكشاك الموزعة في أرجاء البلاد والتي تبث السموم الملوثة للذوق والأخلاق علاوة على أنها تدفع بأجهزتها المصوتة إلى درجة يستحيل على السمع أن يتقبلها دون أن تُحدث فيه أضرارا مختلفة أقلها صفير أو زفير داخلي مزعج acouphène يتواصل بعض الوقت ويُنقص من القدرة السمعية.
وفي هذه الحالة ينصح العارفون بإراحة الأذن لمدة لا تقل عن 48 ساعة حتى تستعيد قدراتها أما إذا تكرر هذا الصفير فهو علامة خطر تستوجب عرض الأمر على طبيب مختص لأنه يمكن أن يعرض الشبان بالخصوص إلى الطرش. وقد سألت أحد أصدقائي المحامين: هل يجوز التظلم لدى المحاكم ضد هذه الظواهر السمعية المزعجة ؟
فأجابني: بطبيعة الحال لأن في ذلك اعتداءا على الغير ولكن بصفة فردية ومباشرة على عكس القانون الأوروبي الذي يسمح أن تتكون لهذه الغاية جمعية أهلية للدفاع عن مصلحة الجماعة والتصدي للضجيج المضرّ.
والموسيقيون هم أكثر المهنيين عرضة لأضرار التلوث السمعي عند مباشرتهم لعملهم سواء كان ذلك في الأستوديو أو في الهواء الطلق لذلك يستعملون صمامات من الإسفنج ضد الضجيج منها ما يباع للعموم في الصيدليات ومنها ما يصنع لهم خصيصا فتحافظ على ألوان الصوت spectre sonore ولا تغير سوى حجمه.
وقد وضع أحد الأخصائيين جدولا لحجم الصوت يبين فيه بالقياس ما يتعرض له السمع في الحياة اليومية.
فالهدوء قياسه 35 دب (décibel وحدة لقياس الصوت) والصخب العادي 60 دب والصخب الذي يمكن احتماله 65 دب والصخب الصعب سماعه 85 دب والصخب القاسي الذي يحتمل بصعوبة 100 دب أما سلم الوجع السمعي فيبدأ من 120 دب وهو الحجم السائد في المراقص الشبابية والتظاهرات الغنائية.
فالعروض الموسيقية التي نراها في مسارحنا وفي قاعات الأفراح لا تحتاج إلى خبير دولي ليُجزم لنا كم هي مخالفة لأبسط قواعد الاستماع وكم هي مضرة بالسمع تلك التجهيزات الصوتية وكم هو مبالغ في تضخيم الصوت إلى حد لا يطاق، فالأهم كما قالت إحداهن: “صوتي وآلات الإيقاع والباقي ليس له قيمة” بما في ذلك سمع المتفرج الغارق في الصراخ والضجيج.
انتهى المقال ولا يزال الضجيج متواصلا.
