في كل مرة يقصد المواطن مؤسسة استشفائية عمومية الا وتتضاعف امراضه فالخدمات متردية والمعاملة سيئة ولا وجود لمواعيد مستعجلة اذ على الجميع الانتظار لان البنية التحتية ووسائل العمل من اجهزة متطورة تكاد تكون منعدمة وقد ينتظر المريض موعدا فيسبقه الموت .
كل ذلك دفع المواطن الى “الهروب” نحو المصحات الخاصة التي تتلقفه بابتسامة وحسن معاملة وخدمات سريعة لكن ينتهي كل ذلك بفاتورة ثقيلة تزيد في هموم المريض وقد تطيح بصحة من تكفل بعلاجه بل ان كل المصحات لا تؤوي مريضا الا ان دفع تسبقة على الحساب قد لا تقل عن الفي دينار .. لا جدال في ان نفقات الصحة في المؤسسات الاستشفائية وفي العيادات الخاصة ارتفعت في السنوات الأخيرة وان القطاع الصحي العام تعددت «امراضه» .. وتلك الزيادات زادت في اثقال كاهل المواطن وعسرت تمتعه بحقه في العلاج الذي ضمنه الدستور الا ان المنطق يفرض معالجة هادئة للمسألة دون السقوط في الشيطنة وتوتير الاجواء الاجتماعية المتوترة بطبيعتها فالطبيب او أي مسدي للخدمة الصحية أوالمستثمر ببعث مصحة خاصة هو مواطن في النهاية وهو يعاني من ارتفاع اسعار مستلزمات عمله التي في أغلبها مستوردة ومع تراجع الدينار ارتفعت تكاليفها عليه كما انه يعاني تماما كالمواطن من ارتفاع تكاليف المعيشة التي مست كل مستلزمات الحياة.
بدل الاهتمام بتبادل الاتهامات والقاء المسؤوليات جزافا على كاهل كل طرف دون ترو من الضروري الاشارة الى ان المسؤول الاول والاخير عن هذه الازمة وما سبقها من ازمات مست قطاع الصحة الحساس جدا هو صندوق التامين على المرض فهو سبب امتناع الصيادلة في فترات عديدة عن التعامل بطريقة الطرف الدافع وهو سبب لهث المواطن وراء علاج يحتاجه ولا يجد اليه سبيلا لانه يكفي التذكير في هذا الاطار ان سقف المصاريف العلاجية خارج اطار الامراض المزمنة للمواطن مضحك اذ لا يتعدى لرب العائلة 300 دينار و50 دينارا لمن يعولهم وهم ثلاثة اطفال في الاقصى والزوجة وطبعا مثل ذلك السقف يمكن ان «تلتهمه» عملية علاجية واحدة للتداوي حتى من زكام في ظل ارتفاع اسعار الادوية اما اصحاب الامراض المزمنة ورغم ان الكنام منحهم حق اقتناء الادوية واجراء التحاليل مجانا ليتم في ما بعد الاتفاق مع نقابة الصيادلة على ان يدفع المريض ثلث تكاليف الدواء ثم يتولى الكنام رد الفارق الى المواطن مع نهاية كل سنة فان هذا الامر مازال حبرا على ورق اضافة الى ان قاعدة الاحتساب تتم على الادوية الجنيسة ولا على ما يقتنيه المواطن من ادوية.
ارهق الكنام اذاننا واعصابنا بحديثه عن قرب افلاسه وصعوباته المالية وهو امر لا يهم المواطن في شيء لان هذا الاخير لم يتأخر شهرا واحدا في دفع ما عليه من مستحقات للصناديق الاجتماعية كما ان المواطن اجبره قانون المالية لسنة 2018 على ان يتحمل اعباء الاقتطاع من جرايته ما نسبته 1 بالمائة شهريا كمساهمة منه في حل ازمة الصناديق الاجتماعية واجبر الكنام كل المنخرطين فيه في منظومة طبيب العائلة او الطرف الدافع على دفع الديون المتخلدة بذمتهم وان بشروط ميسرة لكن لا يتم تجديد الدفتر العلاجي الا اذا التزم بدفع ما عليه بانتظام .. اضافة الى ما يعانيه المواطن من صعوبات في تلقي العلاج جراء مشاكل الكنام فانه لا بد من الاشارة ايضا الى تردي الخدمات في الصحة العمومية نتيجة لعديد الاسباب اولها التراخي في القيام بالواجبات واهتراء التجهيزات وتتالي الاضرابات الى غير ذلك من النقائص التي تعاقد معها التونسي كلما زار منشأة صحية عمومية.
امام الاندفاع الرهيب من المواطن نحو التداوي على نفقته ولان العملية الصحية صارت مكلفة في ظل الزيادات وارهقت الجميع حكومة ومواطنين ومسديي خدمات صحية فان الحل يكون في ضرورة تعميم طريقة الطرف الدافع على مؤسسات التأمين التي مازالت تتعامل بطريقة تقليدية تقوم على تقديم ورقات علاج تتأخر هي في الرد عليها كما ان المواطن قد لا يجد سيولة مالية تمكنه من التداوي لان عليه دفع كل التكاليف كاملة ثم انتظار مؤسسة التأمين التي يتعامل معها لتعيد اليه بعض ما انفقه وان لم يكن لديه اموال ساعتها عليه انتظار الفرج او “يدبّر راسو” ليصبح من الايسر على الجميع تعميم طريقة الطرف الدافع فيتيسر العلاج للمواطن في كل وقت لانه مطالب فقط بدفع ثلث التكاليف ثم تقوم شركات التأمين بدفع الباقي الى مسدي الخدمة الصحية .. هذه التجربة تم تعميمها في عديد الدول كما انه يتم تطبيقها على نطاق ضيق في تونس في ثلاث أو اربع مؤسسات عمومية كبرى وتقوم على ان تتعاقد شركات التأمين مع شركات تصرف في المحافظ المالية تيسر تنفيذ طريقة الطرف الدافع كما ان الدولة بامكانها مراقبة كل المعاملات بطريقة تضمن لها الحصول على الاداءات التي يثار حولها نقاش مستفيض في كل سنة كما يخف الضغط على الكنام ويلتقط انفاسه ليراجع اتفاقياته مع المواطن ومع مسديي الخدمات بطريقة ترضي الجميع.
عبد الحميد الفلاح