بدون مبررات تذكر أخذتني ساقيّ الى المدينة العتيقة في قلب العاصمة تونس، لأستعيد أجواء طفولتي في هذه الأماكن التي وان ضاع منها الكثير من حيث الجمالية والنظافة والمعالم الثقافية المهدورة من حيث الرعاية والصيانة، خاصة في زمن الكورونا حيث توقف التدفق السياحي بصفة كلية، وعادت المدينة العتيقة لسكانها وزوارها من كافة جهات البلاد، وهذا أدى الى انحصار البيوعات على الوطنيين لاقتناء ما يستحقونه من لوازم الافراح التقليدية وحفلات الختان، والمناسبات الدينية في حدود الامكانيات المتوفرة.
لفت انتباهي تدني البنية التحتية وشيخوخة بعض الدكاكين والبناءات الخاصة والعامة وحتى أرضية الأنهج حالتها تستحق الشفقة، بها حفر كثيرة وكل أنواع الأوساخ التي عادة ما يكون مكانها حاويات جمع الفضلات. ولم يبق من جمالية المكان الا حسن الاستقبال وحفاوة التجار والباعة ومن يلف لفهم في نهج جامع الزيتونة ونهج القصبة والعطارين وسوق اللفة وسوق الترك وسوق البركة والسراجين، وبالامكان التجول في رحاب الحارات القريبة والحومة العربي والزوايا، من باب سويقة والحلفاوين الى باب الجديد باب البحر ونهج الجزيرة وفي باب منارة اين توجد زاوية للّة عربية (الولية الصالحة مزارة الراغبات في الزواج او الانجاب! المهم عقد النية) وتربة الباي “مقبرة البايات” المترامية في الحومة التي تحمل اسمها ويعرف عنها القليل رغم القيمة التاريخية للموارين هناك، وجامع الزيتونة المعمور، الذي يمثل نواة المدينة العتيقة، ومطاعم شهيرة لا يوجد مثيل لها كدار الجلد.
تحوز “المدينة العربي” ايضا على أماكن تاريخية، فهنا بتربة الباي سكن العلامة ابن خلدون وليس بعيدا في نهج الكومسيون سكن موحد ايطاليا جوسيبي غاريبلدي عندما دارت عليه الدوائر واشتغل مع احد البايات الحسينيين في تدريب القوات البحرية آنذاك ثم عاد الى ايطاليا ووحدها..
وهذه الاماكن وغيرها لازالت موجودة الى حد اليوم.. ستعجبك رائحة البخور والعطور والبهارات والاناشيد الصوفية، التي تضفي على الدكاكين والمكان روحانيات تخفف من الضغط النفسي جراء البروتوكولات الصحية والوضع الاقتصادي عامة..
ولا تجد هنا المسائل السياسية والنقاشات المتجنشة ولا الرياضة، بل تجد خشوع تام في حضرة البيع والشراء والتوكل على الله..
اما الأنهج المجاورة لساحة الحكومة والآهلة بالسكان وبعض المراكز الثقافية والمقاهي ومطاعم الاكلات الخفيفة، فهي تطورت بحكم عادات رمضانية مستقرة هناك في السنوات الأخيرة والمتمثلة في احتلال المقاهي ومحلات الاكلات التقليدية، لأرضية وفضاءات أنهج سيدي بن عروس ونهج الباشا ونهج دار الجلد وغيرهم، بنشر الطاولات والكراسي والشيشة واقامة عروض موسيقية راقصة في الهواء الطلق، غالبيتها شبابية صاخبة بحدود معقولة.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه لماذا لم تنتهز السلط المعنية بصيانة المدينة فرصة الركود في الأسواق العتيقة لتقوم بالترميمات اللازمة على مستوى واجهات المحلات التجارية والانهج والساحات وتفرض على التجار المحافظة على النظافة وجمالية دكاكينهم ومحيطهم لتكون جاهزة عند التعافي من الوباء وعودة السياح والحياة لهذه الاماكن التي تجلب عادة كل زوار بلادنا من الأجانب والأشقاء والتونسيين بالخارج.
فأنا تعلّمت شخصيا طيلة اقامتي بالخارج سنين عمري، وليس فقط في هذه الازمة الصحية والسياسية والاقتصادية، أن التونسي مهما أحس بالقهر وضعف ذات اليدين، فلن يستسلم بسهولة وستنتصر تونس في النهاية برغم المشككين والمعادين لاي فكر جديد ولاي بوادر اصلاح او تغيير مسار (عنزة ولو طارت) وهذه قصة أخرى.