بقلم: عبد الجليل المسعودي
فُجعت مدينة الكاف اليوم بموت احد ابرز ابنائها الفنانين المطرب محمد العربي القلمامي.
انها خسارة لاسرته و لاصدقائه ولمدينته التي احبها بجنون، و لكنها خسارة كذلك لتونس كلها.
ف”العربي” كما كان يناديه اصدقاؤه، كان ذاكرة التراث النغمي الشعبي للشمال الغربي كله وافضل من يؤدي اغانيه بصدق و احساس و قدرة على الوصول الى قلوب مستمعيه.
ولد العربي في اصول تنحدر من مدينة قالمة الجزائرية في عائلة معروفة بولعها بالغناء قدمت فنانين آخرين لم تقلّ شهرتهم عن العربي و منهم شقيقه عبد الحفيظ رحمه الله استاذ الموسيقى و العازف والملحن البارع.
كان العربي موهوبا بالقدر الذي عوض به عن نقص معارفه الاكاديمية، وكانت له أذن ثابتة، كما يقال في لغة الموسيقيين، و ذكاء حاد في التقاط النغم الجيّد التونسي و المشرقي على حد السواء وحفظه وادائه.
كما كان له صوت قوي ذي اتساع كبير و نبرة حزينة تناسب اداء اغاني الشمال الغربي التراثية المفعمة بجروح “الهجر” و “الرحيل”و”الابتعاد و “والغياب” و التي تختزن ذاكرة رحلة الشتاء والصيف لقبائل الوسط و الجنوب الى حقول و مزارع الشمال الغربي او “فريقة” في لهجة قبائل الهمامة و بني يزيد وغيرهم من الرحّل الذين يتتبعون الخصب لمواشيهم حول مدن الكاف ، حيث يتركون عند ترحالهم قصص أُلفٍ و عشق و اغانٍ يتلقاها سكان القرى و المدن ليثروا بها خزينة تراثهم.
لكن العربي القلمامي و إن حقق تفوقا كبيرا في مثل هذه الاغاني التراثية و احبه اهل الكاف على ذلك التميز، فانه كان فنانا متعدد المواهب لم يبخل بجهد في اثراء النشاط الثقافي في مدينة الكاف التي تحولت منذ نهاية الستينات و الى حد نهاية الثمانينات الى مركز انتاج و ابداع و اشعاع كان القلب النابض فيه فرقة المسرح القارة بادارة المرحوم منصف السويسي.
ولعل عشاق المسرح ما زالوا يذكرون دور المغني الذي اسنده السويسي للمرحوم في مسرحية “عطشان يا صبايا” وهو الدور الذي اعتمده العربي لاظهار قدرته الكبيرة على اداء أجزال بيرم التونسي و تمكنه الطبيعي من خصوصيات النغم المشرقي الاكثر تعقيدا.
كان محمد العربي القلمامي انسانا سهل المعشر يحب الحياة. كان متساهلا بُوهَيْمي يعيش ليومه بل للحظة الحاضرة.
لم يكن بناء مسيرة مهنية يهمه، و لا صنع نجومية تعنيه، و لا جمع ثروة يغويه.
كان يحب الغناء تأديةً و سماعا و رغم ما كان يوحي به وجهه من تجهم ظاهر لا سيما بعد فقدان شقيقه عبد الحفيظ، فانه كان حاضر النكتة متحليا دوما بروح المرح و الدعابة.
انتقل بين اكثر من عاصمة و اشتغل في الدار البيضاء و في أثينا.
لكنه كان دوما مثل الطير المهاجر يتعجل الرجوع الى مدينته التي احبها بجنون ليلتقي باصدقائه و يستعيد ذكريات شباب مر سريعا مثل نسمة صيف في اعالي الكاف.
رحمك الله صديقي العربي رحلتَ و لم يرحل صوتك الهادئ الاجش الذي دونت به اجمل اغاني “برّ الكاف” الشاسع الغني باسرار الانتظار و العشق.
و الامل معلق اليوم على رجال الفن و الثقافة في الجهة ممن عرفوك و عاشروك امثال الاستاذ حبيب العوادي المدير الاسبق للثقافة لجمع اعمالك و تثمينها.
نلتقي سويا في جنة الخلد انشاء الله و نطلب منك ان تغني “راعي نحيفة” فتستجيب كعادتك ضاحكا.