الموت مصيبة كما عرّفها الله في كتابه العزيز. لكن وفاة المغني منذر الجبابلي تمثل خسارة كبيرة ليس لمدينته (تاجروين) ومنطقته (الكاف) وجهته (الشمال الغربي) وما جاورها من شمال القطر الجزائري وحسب، بل للبلاد التونسية كلها.
وهي خسارة لا تُعَوَّض لأن الفقيد كان موهبة خارقة وربما كان-ولم نكن ندري-هدية إلهية مثل ما كانت صليحة ابنة بلده، او مثلما كان الشاعر ابو القاسم الشابي، أو الرسام عمار فرحات، او الكوارجي حمادي العقربي. لم يتعلم منذر الغناء في معهد ولم يكن يقرأ السولفاج. غنّى عن غريزة. عن فطرة.عن صليقة.
غنى منذر لانه إنسان والإنسان حيوان مغنٍّ. ثم أصبح مغنيا او “غنّاي” لأنه فهم وفهّموه ان الصوت الذي يمتلكه يتوفر على صفات القوة والإتساع والإحساس والمدى وهي الشروط التي تؤهله أن يمتهن الغناء ويجعل من ممارسته مصدر رزقه.الى هنا يبدو الأمر عاديا.
ما هو أهم ان الفقيد تحوّل بنوعية غنائه المسمّى ب”غناء فريقا” (نسبة الى إفريقية المتمحورة حول منطقة الشمال الغربي) الى ذاكرة حية تجمع تعابير شعوب وقبائل بأكملها وتترجم لتجارب حياتية لم تتغير كثيرا في عمقها العاطفي والحسّي رغم التحولات الإجتماعية الكبرى التي مرت على المنطقة والبلاد عموما.
كان منذر يردد اغاني الحياة بما فيها من لذة العشق ومعاناة التمزق والفراق، وكانت كل أغنية من التي حفظها وأدّاها بمثابة الوثيقة الشاهدة على حياة شريحة هامة من شرائح شعب تونس ونمط عيشهم وما يجمعونه ويتركونه في حلّهم وترحالهم بين جهتي الوسط والشمال من أحلام وآلام وخصوصا من اغانِ ومغانٍ يلقتطها الناس كما كانوا يلتقطون السنابل إثر كل موسم حصاد لملإ احتفالاتهم وافراحهم.
مات منذر وبموته اندثر جزء لا يمكن تحديده من مدوّنة الغناء في الشمال الغربي وسقط ركن من أركان الذاكرة الجماعية.
وهنا تكمن الخسارة التي لا تُعوض.
لماذا؟ لان فنّ منذر الجبابلي وزميله عبد الرحمان الشيخاوي وقبلهم العربي القلمامي-رحمه الله- فن تلقائي نابع عن غريزة ولا يخضع لمعايير وبراماترات “الفنّ التونسي” كما وقع تحديده منذ فجر الإستقلال وفرضه أصحاب السلطة الحضرية على باقي البلاد.
لان ما يسمى بالمعاهد التونسية للموسيقى بما تجمع من مختصين وأخصّائيين مستعمرة فكريا من طرف فناني المشرق العربي وهي عاجزة عن احتواء “غناء فريقا” الوطني وتزيله المكانة التي يستحق كفن تونسي قائم الذات معبر عن تجربة واقع شعب ومنطقته.
الحقيقة الأخرى والأخطر ان تونس لم تُشف بعدُ من آلام ماضيها وما تزال تعاني الانقسام الذي احدثته في سجم البلاد ثورة علي بن غذاهم منذ قرن ونصف قرن من الزمن وتواصلت تداعياته الى اليوم في شكل تمييز ظالم واحيانا حاقد بين ثقافة أهل المدينة وثقافة أهل الأرياف والجبال، بين غناء الحاضرة الأليف وبين غناء الشمال الغربي المتمرد، بين ثقافة المخزن المطيعة وثقافة السيبة الرافضة.بين تونس “ما قبل البلايك” وتونس “ما وراء البلايك”.
من اجل كل هذه سوف يُنسى للأسف منذر الجبابلي سريعا ولن يبقى من فنه الجميل غير تسجيلات رديئة.
لأن الدولة التونسية ورغم التأثر المناسباتي التي عبرت عنه وزارة الثقافة لا تعترف بفن الجهات ولا تعرفه أصلا.
رحمك الله يا منذر الجبابلي.