مقال لعبد الحليم المسعودي
يبدو أنه مع اندلاع مصطلح مسرح ما بعد الدراما على ألسنة بعض المسرحيين الذين يدّعون التجديد والتجريب قد ازدهر خطاب يبرر كل ما يمكن اقترافه في المسرح من فظاعات هو تحقيق للفرجوية، أو لنقل بشكل أدق تحقيق لفرجوية العمل المسرحي.
وأصبحت هذه “الفرجة” تعني فيما تعنيه عندهم ذلك الفائض المضاف الذي قد يتجاوز مفهوم المسرح نفسه.
ويبدو أن مفهوم “الفرجة” هذا قد انحصر عند البعض وبشكل إعتباطي في مغالاة المسرحيين بالاستعمال المفرط للوسائل التكنولوجية الحديثة وما توفره من ابهار بصري وصياغة شكلية للعمل المسرحي الذي بات قائما على الاعتباطية عوضا على التواضع المسرحي بالمعنى اللساني والسيميولوجي.
ويعتقد هؤلاء الغلاة في تحويل العمل المسرحي إلى حضيرة تكنولوجية أنهم يلامسون الإبداع والتجديد والحداثة المسرحية وما بعدها.
وهم في ذلك يدافعون بشكل متعصب على أولوية “الفرجة” وعلوية “الفرجوية” على المسرح نفسه خاصة إذا كان هذا المسرح متقشفا وبسيطا في أدواته ولغته البصرية والتواصلية.
ولا يعير هؤلاء الفرجويون بالمقابل اهتماما بالعناصر الأولية الدنيا واللازمة التي يتحقق من خلالها المسرح ألا وهي النص والممثل.
وهم يعتبرون أن الاعتماد على هاذين المكونين حصريا ضربا من التخلف وتمسكا بالطرائق البالية في المسرح، وأنه من الواجب اليوم باسم مسايرة تحولات العصر العَوْلَمِي استثمار كل الإمكانيات التكنولوجية الحديثة بما في ذلك المتممات الافتراضية لتحقيق الحد الأقصى لشد المتفرج لأعمالهم “الفرجوية” التي تعتمد الإبهار والغواية البصرية.
وهو ما يعني صراحة أن هؤلاء الفرجويين ليسوا إلا مجرد صنّاع فرجة وليسوا بمبدعي مسرح بكل ما يعنيه المسرح من فكر خلاّق و”تحرير للمحسوس”.
هؤلاء “الفرجويّون” لا تثريب ولا لوم عليهم، ذلك أنهم قد قدموا للمسرح لا من وظيفته الحياتية الدنيا ولا من حاجتهم الداخلية لهذا الفن، ولا من خرائط النصوص المسرحية الكبرى ولا من مدارس الأداء الصارمة، بل من ثغرات خارجة عن نطاق الفن المسرحي نفسه، أي من شاشات سوق فرجة المُعَوْلَمِ وذبذباتها ومن حلبات “مجتمعات الاستهلاك” على حد عبارة جون بودريار Jean Baudrillard وتدوير نفايات ما تلقي به هذه الأسواق من أجل تأسيس “مجتمعات للفرجة” على حد عبارة غي ديبور Guy Debord.
إن هؤلاء الفرجويين لا ينظرون للمسرح بوصفه أصلا، ولا للمسرح بوصفه جوهرا، ولا للمسرح بوصفه التعبيرة الباطنية الكبرى لحياة المجتمع ولا ينظرون للمسرح بوصفه تلك الإرادة البروميثية التي تسرق المعنى المعرفي كما تسرق النار المقدسة وتمنحه للمتلقي من أجل تمكينه من بناء ذاته ونحت كيانه وفتح بصيرته على الوجود والجمال.
إنهم لا ينظرون للمسرح إلا بوصفه تعلة لتحقيق ما يسمّونه “فرجة” وكيفما كانت وسائل تحقيقها.
وهم في ذلك تراهم يعادون المسرح حين يكون قائما على الفكر وعلى المعرفة وعلى النقد وعلى الحوار، وتراهم يضجرون من أي نقاش جاد حول المضامين ويجتهدون في رمي الآخرين من المسرحيين بالتخلف والتعلق بالتقاليد البالية التي راكمها المسرح طوال قرون.
ولا تترك أعمال هؤلاء الفرجويين “المسرحية” عند المتلقي أي أثر يذكر عدا انخطاف النظر لحظة العرض وإيهام المتلقي بتحقيق نوع زائف من الإشباع البصري العابر.
بل أن “أعمال” هؤلاء تساهم في تعويد هذا المتلقي على استقبال السطحية والمضامين الزائفة بشكل يجعل منه معاديا للمسرح حين يكون المسرح فقيرا لا يعتمد في أدواته إلا على جسد الممثل الحق ولا يعتمد إلا على الفكرة الكامنة في جهد كتابة النص المسرحي ولا يعتمد إلا فراغ الخشبة الخالية من الثرثرة البصرية والسينوغرافية المتحذلقة.
نشر هذا المقال بمجلة المسرح للشارقة.