بقلم أحمد الحمروني
عرّفت اليونسكو التراث الثقافي اللّامادّي بأنّه “الممارسات والتصوّرات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات –وما يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات وأماكن ثقافيّة- التي تعتبرها الجماعات والمجموعات وأحيانا الأفراد جزءا من تراثها الثقافي.
وهذا التراث الثقافي غير المادّي المتوارث جيلا عن جيل تبدعه االجماعات والمجموعات من جديد بصورة مستمرّة بما يتّفق مع بيئتها وتفاعلاتها مع الطبيعة وتاريخها.
وهو ينمّي لديها الإحساس بهويّتها والشعور باستمراريّتها، ويعزّز من ثمّ احترام التنوّع الثقافي والقدرة الإبداعيّة البشريّة”.
وإذا كانت الجملة الأولى كافية للتعريف دون الحاجة إلى الجمل الموالية التحليليّة، فإنّه يمكن اختصارها، نظرا لطولها، في تعريف التراث اللّامادّي بأنّه ما بقي من التراث الثقافي بعد حذف التراث المادّي.
على أنّ الفصل بينهما يبدو منهجيّا وحتّى اعتباطيّا اعتبارا لعلاقة الاتّصال والتكامل بينهما.
ومن الأمثلة على ذلك أنّ النقيشة تراث مادّي بحاملها مهما كانت مادّته، وفي نفس الوقت تراث لامادّي بمحتواها ودلالتها التاريخيّة والأدبيّة والرمزيّة، وأنّ اللوحة الزيتيّة تراث لا مادّي بتعبيرها عن فكرة أو شعور أو موقف أو رسالة، ولكنّها تراث مادّي بإطارها وقماشها وتركيبة ألوانها، وكذلك الكتاب والآلة الموسيقيّة وغير ذلك ممّا يكون الفصل فيه بين المادّي واللّامادّي تعسّفا وإجحافا.
وإنّه لمفهوم جديد بديل لما كان يسمّى بالفلكلور أو التراث الشعبي بما فيه الشعر الشعبي والأمثال والألغاز والحكايات وكلّ ما يطلق عليه اسم التراث الشفوي شاملا العادات والتقاليد.
ومن دون أحكام أخلاقيّة أو معياريّة حظيت أشكاله بالعناية والدراسة والتوثيق والعرض المتحفيّ لدى غيرنا أكثر منّا رغم بعض الجهود الفرديّة لبعض المؤلّفين التونسيّين بما في ذلك أبحاث الآباء البيض بمعهد “إيبلا” ومجلّته من قبل اهتمام المعهد الوطني للتراث بهذا الاختصاص عبر مجلّته المحتجبة “كرّاسات الفنون والتقاليد الشعبيّة”.
وذلك في وقت كانت فيه بعض الدول العربيّة، كالعراق ومن بعده دول الخليج والشرق الأوسط، تخصّ الموضوع بمجلّات محترمة بمثل عنوان “مجلّة التراث الشعبي” أو بموسوعة مثل “معجم الحرف والفنون الشعبيّة الفلسطينيّة” لحسين علي لوباني.
ولا أتكلّم عن الأجانب.
وإذ نبارك انطلاق المعهد في الجرد الوطني للتراث الثقافي اللّامادّي في شكل بطاقات مرقّمة بلغت إلى حدّ الآن 66 جذاذة، فإنّنا نسمح لأنفسنا بإبداء بعض الملاحظات بشرعيّة اهتمامنا بعدّة أشكال من التراث اللّامادّي في مختلف إصداراتنا، كالمتعلّقة، على سبيل المثال، بالمخطوطات والروايات الشفويّة والعادات والأمثال والأساطير في تستور والشمال الغربي وبعض المدن الأخرى، بالإضافة إلى التراث الموريسكيّ.
إنّ المنهجيّة المتّبعة في ذلك الجرد الأوّليّ والمنطلقة من مبادرات واقتراحات لمواضيع من هنا وهناك لا تسمح بالحصر والشمول، كما تؤدّي إلى الإهمال لصالح التكرار.
فبدل أن يتناول موضوع الزيتون والزيت في كامل الجهات في جذاذة واحدة مفصّلة اقتصر فيه على جذاذتين للساحل وصفاقس.
وكذلك موضوع الزردة الذي مثّلته جذاذات زردة سيدي صالح البلطي وسيدي بركات ورجال قعود من دون الزردات الأخرى، وكان يحسن تناوله في جذاذة واحدة تخصّص فيها فقرات لأشهر الزردات على أساس الفوارق.
وكذلك بالنسبة إلى مرقوم الجم مفصولا عن مرقوم وذرف، وفخّار سجنان مفصولا عن فخّار البرّامة وخزف القلّالين. وما زلنا ننتظر جذاذات عن صناعة القرمود والياجور بتستور وحرفة الشّعر ممّا كان بها وبغيرها قبل الانقراض.
وسننتظر أطول وقت للمالوف والجبّة والملوخيّة والعصبان والمرقاز والكفتاجي والطاجين بونارين والصحن التونسيّ والمروحة والكاسة والحكّاكة والكدرون والزربيّة والأغاني والمدائح والألعاب إلى آخره، بل إلى اللّانهاية في اتّجاه تأليف موسوعي.
وزيادة على التكرار من جذاذة إلى أخرى وفي نفس الموضوع من مدينة إلى أخرى نعثر على تكرار في الأفكار بين فقرة وأخرى داخل الجذاذة الواحدة.
والمهمّ، رغم تلك الملاحظات، أنّنا بدأنا وبصفة علميّة بداية نرجو أن تتواصل فيشكر عليها المعهد والعاملون في برنامج الجرد.
وما هو بمشروع يسير في مثل ظروفنا وإمكانيّاتنا.
وحسبنا في إطار الجمعيّة التونسيّة “المعالم والمواقع”، ومن حين لآخر، محاضرة، على منبرها تُلقى، وفي مجلّتها تنشر.
وتلك مساهمة محدودة في التوعية بقيمة التراث اللّامادّي والتنبيه إلى هشاشته لما يعتريه من المخاطر وهو المحمول على الهواء.
فالروايات الشفويّة، على سبيل المثال، معرّضة للتحريف نتيجة تناقلها، ومهدّدة بالزوال تبعا لوفاة رواتها وانقطاع السند من جيل إلى جيل، بين الشيوخ والشباب.
وآفة الذاكرة النسيان.
ومثل ذلك حال حرفة “الشعر” وصنعة القرمود اللتين اندثرتا لوفاة آخر الحرفيين وعزوف الأبناء المتمدرسين عن الأشغال التقليديّة اليدويّة التي توارثها الآباء عن الأجداد معتاشين منها.
وإحياؤها صعب، ولكن ممكن، بتضافر الجهود تثمينا وتسويقا.