بقلم أحمد الحمروني
استوحيت هذا العنوان من تمثال “المفكّر” للنحّات الفرنسي الشهير أوغست رودان (1840-1917م) لرسم الشخصيّة الفكريّة والفنيّة للرسّام التونسي المنصف المانسي المشهور هو أيضا عالميا بلوحاته التي تباع بالملايين في أكبر قاعات العرض الأوروبيّة والأمريكيّة.
فتح عينيه في شبابه على ميكال آنج (1475-1564م) وليوناردو دي فنشي (1452-1519م) أشهر ممثّلي عصر النهضة الغربيّة وكأنّ روحا منهما انتقلت إليه بالتناسخ فولد كبيرا بخلاف المبتدئين، وانطلق من القمّة عكس العاديين.
إنّه لا يرسم ما تراه العين بل يرسم ما يراه العقل والوجدان، أي ما وراء الصورة المرئيّة، أي الأعماق بنظر ثاقب للمشهد كأشعّة إيكس.
وأكثر وأبعد من الرسم، إنّه يعبّر عن فكرة وشعور، ويخاطب المشاهد بلغة خاصّة وبأسلوب متميّز ببصمة المبدع مضيفا جوّا من القداسة على تشكيلاته وألوانه وأضوائه.
ولوحته الشهيرة “عين اليقين” المتوّجة منذ عقود بأكبر جائزة وطنيّة تشهد بعنوانها وشفافيتها ومستوياتها على عمل استثنائي استغرقت لمساته شهورا على غرار الحوليّ المحكّك من شعر الفحول.
لوحة تجسّد النظر وتدعو الواقف أمامها لا إلى المشاهدة بل إلى النظر والتأمّل والتفكّر بل إلى الحلم والتخيّل والانعتاق على طريقة أقطاب التصوّف في تساميهم إلى الذات العليّة بأمل الاتّصال والفناء.
وكذلك لوحته الشهيرة “مرسمي الباطني” المتوّجة هي أيضا والمعبرة بعنوانها وطبقاتها عن فكرة أنّ مرسمه ليس ورشة خارجيّة بل هو مخبر داخليّ عميق نحن لا نراه وإنّما هو وحده الذي يدخل إليه لتلقّي الوحي كالذي يخرج من عالمنا وينام ليرى في المنام ما لا نراه ويخرج علينا بألواح موسى.
عندما يحدّثني صاحبي عن الفنّ، دون أن نشعر بمرور الساعات، أستمتع برحلة لغويّة مع فيلسوف يرفع الحجب ويكشف عن الأسرار ويبرز التفاصيل مقتنعا بأنّ أصغر التفاصيل وأدقّ الجزئيّات في الرسم وفي سائر الفنون هي التي تصنع أكبر المبدعين، بل هي تأشيرة إلى العالميّة.
وصاحبي مسكون بالتفاصيل، وفي نفس الوقت ساكن فيها وكأنّها هويّته وسرّه وأسلوبه حتى لا تحتاج لوحاته إلى إمضائه لأنّها تحمل بصمته الدالة عليه والمعرّفة به منذ الوهلة الأولى والنظرة العامّة.
ذلك لأنّه لا يقلّد أحدا ممّن أعجب بهم من عباقرة الرسم فأراد أن يرتقي دفعة واحدة إلى مصافهم، منضافاإليهم في غير تأثّر أو تكرار.
وعندما يحدّثني صاحبي عن فنّه أستعذب سماع فنّ على فنّ مثلما درست ودرّست الكلام على الكلام والنقد الذي يصبح هو أيضا إبداعا، والشبه موصول بين الأدب والرسم وسائر الفنون.
ومع متعة السماع آسف على أنّ كلامه الذي لا يقلّ جماليّة وعمقا عن أعماله غير مسجّل بالصوت أو مكتوب بالحرف، وإنّما هو مرسل للضياع على أمواج الأثير، والحقّ أنّه مفتاح لعوالمه وتفسير لأعماله، ومن دونه يتعذّر فكّ الألغاز واستجلاء المعاني.
ولطالما دعوته بل ترجّيته للكتابة بالتوازي مع الرسم لأنّه يرسم بالكلمات أيضا أو يرسم إذ يتكلّم، مثلما يفكّر حين يرسم.
وتفكير الرسّام ليس منطق ديكارت بل هو رؤية ورؤيا في مثل نومة أو خرجة عن هذا العالم وعودة بعد يقظة كتجربة الإسراء والمعراج أو حالة من خروج الروح مؤقتا إلى عالم اليقين وانبعاث جديد في عالم الشهادة.
وما أخطرهما تجربة سرياليّة وحالة وجوديّة على الصحّة النفسيّة والبدنيّة، أي على الحياة!
فاحترق أيّها الرسّام لتنير في غياب بروميثيوس لأجل الموطن والوطن.