بقلم أحمد الحمروني
بمنتهي البساطة يتصوّر قرّاء كتبنا ومقالاتنا أنّ دور النشر في بلادنا فاتحة أبوابها على مصراعيها لمخطوطاتنا وبالأحرى لمرقوناتنا وكأنّها ستجني منها أرباحا وفيرة ويكون لنا منها نصيب كبير.
ويتصوّرون أيضا أنّنا نعيش في يسر وننعم بالرغد. وللأسف لهم فيما يتصوّرون ولنا فيما نعاني من محنة الكتابة وعسرة النشر وبليّة الثقافة، فنحن في واد غير ذي زرع، والسعادة في واد آخر بعيد.
وليعلم الجميع أنّنا للضرورة، في أمّة إقرأ التي لا تقرأ، نساهم في النشر بمبلغ هامّ مقابل مجموعة نسخ من الكتاب إبّان صدوره وحتّى قبيل طبعه، ونتلقىّ حقوق التأليف في شكل مجموعة أخرى من النسخ.
ولو عاش محمود المسعدي إلى يومنا هذا، وهو المبرمج في عام البكالوريا منذ عقود، لاضطرّ إلى فعل فعلنا، إذ يكفي أن يشتري واحد فقط من التلاميذ نسخة من كتاب “السدّ” أو من كتاب “حدّث أبو هريرة قال” ليتبادل بعض زملائه صورا مستنسخة منه بأقلّ من سعره.
والتكنولوجيا المتقدّمة ليست كلّها وليست دائما مفيدة للكتاب، بل هي غالبا ما تكون خصما منافسا له وشاغلا عنه سواء بمواقع الأنترنت أو بشبكة التواصل الاجتماعي “فايسبوك”.
وشبابنا الصاعد، في مختلف مستويات التعليم ينقر على الهاتف الذكيّ وعلى الألواح الإلكترونيّة ولا يتصفّح كتابا، بل لا يحمله، ولا يقدر على قراءته.
وخطوط التلاميذ فيما يضطرّون إلى كتابته دالّة على الخطر الجاثم، وأخطاؤهم اللغويّة نحوا وتعبيرا ورسما دالّة أيضا على الكارثة القائمة، وكذلك الخلط بين اللغات في الكلام، حتّى في الجملة الواحدة إلى درجة الحيرة بين اتّجاهين في الكتابة، من اليمين إلى اليسار في كلمة، وبالعكس في أخرى.
وحصّة المطالعة، وكذلك برامج الترغيب في المطالعة والتحفيز بالجوائز وغير ذلك من الاجتهادات عقاقير لا تنفع فيما أفسده الذوق.
ولا فائدة في تكرار الكلام المعروف عن علاقة اللغة بالهويّة، وبالوطن، وإنّما لا بأس، على الأقلّ، من تسجيل ملاحظة خطيرة، هي أنّ هذا الشباب المتمدرس يعجز عن قراءة المصحف، بل لا ينظر إليه.
وقس عليه أمّهات الكتب وروائع الأدب ومصادر الثقافة، سواء العربيّة منها أو الأجنبيّة.
والمتجوّل في معارض الكتاب لا يلاحظ إقبالا على اقتنائه إلاّ ما كان منه موجّها للأطفال، وإنّما الإقبال أحسن بقليل على الأنشطة الموازية مع العلم بأنّها مكلفة على وزارة الثقافة بمكافآت المنشّطين والمحاضرين ومبالغ الجوائز وما وراءها، وكلّ ذلك يثقّل على سعر المتر المربّع من مساحة العرض التي يتسوغها الناشر.
وكل يشتكي من غلاء الانتصاب ومصاريف النقل والحمل والإقامة والإعاشة مقابل ضعف البيع رغم التخفيض، زيادة على انعدام الدّعاية.
ووسائل الإعلام بأنواعها لا تعتبر الكتاب مادّة تغري المستهلك مستمعا أو مشاهدا أو قارئا.
وأفضل منه، في نظرها، أخبار الفنّانين ومسلسلات العنف والجريمة والإرهاب والفساد بمناسبة رمضان المبارك شهر العبادة والتقوى والمغفرة.
وممّا يؤسفني إلى درجة الشعور بالقهر أنّي أنتمي إلى مؤسّسة صحفيّة بما أكتب لها عن الكتب، خاصّة في ملحق “الشروق” لرمضان والصيف، وأهدي بعض زملائي فيها الجديد من إصداراتي فلا أفرح بحرف من أحدهم كأن يعلن عن صدوره بجملة مفيدة بفعل وفاعل ومفعول به من نوع : “نشر فلان الفلاني كتاب كذا”.
وفي المقابل، ولا حسد، يكتب بعضهم عن كتاب واحد ويتيم لغيري خمسين مقالا ما بين ورقيّ وإلكترونيّ تبعا لتنقّلات كاتبه من دار إلى دار عبر أربع وعشرين ولاية.
أليس من حقّي الشكّ والريبة إزاء قلم مأجور؟ وبئس الفساد(وليس هذا الذي كتبت الآن أكثر من فصل من كتابي الجديد الذي سأحتفظ به لنفسي مخطوطا من دون أن أنفق على رقنه وتصفيفه ومشاركة ناشره وترجّي جريدة تكتب عنه أو إذاعة تدعوني لتقديمه وتخصيص موضع لنسخه من منزلي المتضايق بالكتب.
وعنوانه هو عنوان هذا المقال أعلاه لعلاقة بالهمّ الأزرق الذي نعرفه في تاريخ العرب مع الروم زرق العيون، ونعيشه في حاضرنا مع المنافقين سود القلوب.