بقلم أحمد الحمروني
رب ضارة نافعة.
هكذا يقال ملاطفة وتعزية.
فالحمد لله أن أصاب الضر هاتفي هذه المرة فقطع اتصالاتي بالناس وفي نفس الوقت أراحني من عدة التزامات وتكاليف ومجاملات طيلة أسبوعين خاتمتهما عيد الفطر.
وفيه يتذكرني من لا يسأل عني طيلة العام ليعرف في كنف التهنئة إن رحلت إلى الرفيق الأعلى أو مازلت على قيد الحياة وفي نفسه تخوف من أن يحين دوره.
ولقد قررت بالهاتف الجديد، بعد استحالة إصلاح القديم، أن أجيب، ولو متأخّرا، على المكالمات المسجلة بالأرقام المعروفة، دون الرسائل الإلكترونية الباردة.
لقد انتفعت طيلة الصمت الإلكتروني بتصفح بعض الكتب ومطالعة مجموعة قصصية لمحمود بيرم التونسي مصورة لمجتمع الثلاثينات بأشكال فساده في كنف الاستعمار وظلمة الجهل ومصيبة الفقر.
ووجدت الوقت الكافي والبال الواسع لكتابة مناسبة لشهر رمضان قد تصدر تباعا في جريدة أو بالجملة في كتاب. وقد يكون عنوانه “وقفات على آيات”. وذلك غير ما قلت في كتابي المنشور منذ سنتين بعنوان “حيرة مؤمن مع القرآن” (سحر، تونس 2021).
فإذا اعتراني بعض الملل من التحرير في الجد روّحت عن نفسي بالتحرير في الهزل، وكلاهما حق، وإنما الفرق في الموضوع والأسلوب.
والمقصود تأليف آخر عنوانه الوقتي “يوميّات الأماكن” أو “حكايات عابر سبيل”.
وهو غير كتاب سابق، شبيه به، عنوانه “معي… بين المدن” (نقوش عربية، تونس 2022).
ولا بدّ بين التحريرين والكتابين من استراحة مفيدة بإبحار عبر الأنترنات حيث محاضرات يوسف زيدان.
وأكثر المواقع تشويقا وإغراء، بعد أخبار “الشروق” و”تونس مباشر”، موقع “الجزيرة الوثائقية” وموقع “ذو الفقار المغربي”.
وأجمل أفلام رمضان على تلك القناة سلسلة “مقاهي عتيقة” (والصواب بحذف الياء).
وأكثر حلقات ذي الفقار تحقيقاته في محاولات اغتيال النبي (ص).
وأصابع الاتّهام توجّهها المصادر الموثّقة الموثوقة إلى أقرب الصحابة إليه ومنه.
وهم الذين عجّلوا بوفاته ليتناوبوا الملك بعده.
لقد سجّلت تفاسير القرآن كالذي لابن كثير وكتب الحديث كالصحيحين تفاصيل المحاولات الإجراميّة برواية الثقات كابن عبّاس والوليد بن عبد الله بن جميع وعمّار بن ياسر وحذيفة بن اليمان.
وهم شهود عيان، وآخرهم ملقّب بحافظ أو كاتم أو أمين سرّ الرسول (ص).
وفي كلّ مرّة يتورّط عمر بن الخطاب وأبو بكر الصدّيق، ومعهما ذات مرّة طلحة وسعد بن أبي وقّاص، وذات مرّة أخرى عثمان بن عفّان، ومن ورائهما وأحيانا بالتنسيق والمشاركة السيّدة عائشة بنت أبي بكر والسيّدة حفصة بنت عمر بن الخطّاب.
وكلتاهما من أزواج الرسول (ص) وأقرب نسائه إليه.
وبعد المحاولة الفاشلة والمفضوحة في العقبة إثر العودة من معركة تبوك إلى المدينة دبّروا له (ص) محاولة ناجحة بالسمّ.
يقولون إنّه بواسطة كتف عنزة مهداة من يهودية في خيبر تضليلا للحقيقة بما أنه (ص) قضم من الكتف قطعة وسرعان ما لفظها إذ نطقت له العنزة أو الشاة بأنّها مسمومة، وعاش بعدها ثلاث سنوات دالة على أن السم لم يفعل فعله في إطار ما اعتبر معجزة.
فما كان منهم إلاّ إعادة المحاولة في مرضه إذ أصرّوا على أن يلدّوه بشراب في غيبوبته كان نهاهم عنه قائلا : “لا تلدّوني”.
ولمّا اقتربت ساعته طلب من جمعهم لوحا أو كتف عظم وقلما ودواة ليكتب لهم، على حدّ قوله : “ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا أبدا” فاعترض عليه عمر متعلّلا بأنّ الرسول (ص) يهجر أي يهذي لشدة الوجع، فاختلفوا بين من وافق عمر وبين من خالفه حتى انزعج الرسول (ص) من ضجيجهم وفوضاهم فطردهم قائلا : “دعوني”.
حتى إذا فارق الحياة هبّوا إلى سقيفة بني ساعدة للتوافق على خليفته وجثمانه مسجّى في بيت عائشة لأكثر من يوم في انتظار عناية علي بن أبي طالب بتجهيز جنازته ودفنه على عين المكان.
وقد تستّر القوم على الخبر العاجل وهدّد عمر من يقول “إنّ محمّدا مات” بالقتل بسيفه إلى أن يتمّ الأمر لأبي بكر احتراما لسنّه فيكون عمر من بعده ويليه عثمان، ويتمّ إقصاء علي وآل البيت.
وما منعوا الرسول (ص) من الوصية التي أرادها مكتوبة ومشهودة إلاّ لعلمهم، بناء على إشارات سابقة، بأنّه سيوصي صراحة بالخلافة لعلي، إذ سبق له (ص) أن أوصى شفويّا عند غدير خم بالقرآن وبعترته آل بيته حتى قال : “من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه”.
من ذلك الوقت المبكّر دبّ الشقاق المفرّق بين المسلمين وانحرفت الخلافة عن الدين إلى الإسلام السياسي الذي عرفناه بأشكاله المختلفة ومظاهره المتطوّرة من ملك متوارث إلى حزب متواطئ عبر تاريخ المسلمين الأسود، وإلى يوم الناس هذا.
نسألالله اللطيف بعباده حسن العاقبة. وما جزاء المنافقين إلاّ الخلود في قرار الجحيم.
وقد بشّرت نهاياتهم في الدنيا بمصائرهم في الآخرة.
وإذ أكتب هذا فالفضل فيه يعود إلى هاتفي المحمول الفاسد الحقيق بمكان في متحفي، والشكر عليه يرفع إلى الله عزّ من قائل : “وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبّوا شيئا وهو شرّ لكم” (البقرة : 216).