الموسيقار د. محمد الڤَرفي
وإني لمشتاق إلى أرض غزة * وإن خانني بعد التفرُّقِ كِتماني سقى الله أرضا لو ظفَرتُ بتُربتها* كَحَّلْتُ به من شدة الشوق أجفاني (الإمام الشافعي)
لكن غزة الأبيّة، العصيّة على المعتدين والطغاة، تتصدى لأعتى جيوش تدعي أنها لا تُقهر، غزة تعاني من وجع الأعداء ومتألمة أكثر من العجز الإخوة الأعداء وقد أرخى سدول الغشاوة والغباء على عيونهم، واليوم وقد سقطت ورقة التوت وتلتها الأقنعة وبان ما تُخفيه البراقع السوداء، فلا عزاء لأهل غزة سوى سواعد المقاومة وأبطالها البواسل بالرغم من تقتيل أطفالها ونسائها الأبرياء.
جاء في “معجم البلدان” للأديب الرحالة ياقوت الحمويّ (574- 626 ه) “غزّة مدينة بأقصى الشام من ناحية مصر، بينها وبين عسقلان فرسخان أو أقل، وهي من نواحي فلسطين غربي عسقلان، قال أبو المنذر:
غزّة كانت امرأة (زوجة) “صور” الذي بنى صور مدينة الساحل قريبة من البحر..
وبها وُلد الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، رضي الله عنه، وانتقل طفلا إلى الحجاز وتعلّم هناك..
وغزة أيضا بلد بإفريقية، بينه وبين القيروان نحو ثلاثة أيام، ينزلها القوافل القاصدة إلى الجزائر”.
ويقول يوسابيوس القيصري Eusèbe de Césarée الذي عاش في القرن الرابع بعد الميلاد، في كتابه “تاريخ الكنيسة” إن غزة تعني العِزة والمَنَعة والقوة.
ووافقه عديد المؤرخين مرجعين السبب إلى الحروب الكثيرة التي دارت رحاها في المدينة وحولها وظلت مثل اليوم صامدة ومنيعة.
وهو ذات المعنى الذي ذهب إليه المؤرخ الفلسطيني المقدسي عارف العارف (1891-1973) في كتابه “تاريخ غزة” الصادر عام 1943 الذي جمع فيه خلاصة ما ورد عن هذه المدينة الساحلية في المؤلفات العربية والإنجليزية والفرنسية والتركية:
“غزة مدينة تاريخية قديمة، لا بل إنها من أقدم المدن التي عرفها التاريخ.
إنها ليست بنت قرن من القرون أو وليدة عصر من العصور وإنما هي بنت الأجيال المنصرمة كلها، ورفيقة العصور الفائتة كلها، من اليوم الذي سطر التاريخ فيه صحائفه الأولى إلى يومنا هذا”.
ويقول الحموي في معرض حديثه عن مدينة غزة إن “العرب تقول غزَّ فلان يفلان واغتزّ به إذا اختصه من بين أصحابه”، ويشرح العارف قائلاً إن ذلك يعني أن الذين بنوا غزة، اختصوها من بين المواقع الأخرى على البحر المتوسط.
أما صفرونيوس المقدسي Sophrone de Jérusalem (560-638 م) صاحب قاموس العهد الجديد الذي صدر عام 1910، فيقول إن “غازا” كلمة فارسية تعني الكنز الملكي، وهو معنى لا يبتعد كثيراً عمن يقول إن “غزة” كلمة يونانية تعني الثروة أو الخزينة.
ويُقال إن ملكاً من ملوك الفرس دفن ثروته فيها وغاب عنها، ثم رجع إليها فوجدها على حالتها. وقد تكون تلك الرواية تكررت في عهد الرومان.
وانضم إليه في ذلك، بحسب “العارف”، السير وليام سميث William Smith في قاموس العهد القديم Smith’s Bible dictionaryالذي صدر عام 1863.
وفي كتاب الحاخام الأمريكي مارتن ماير Martin Abraham Meyer (1879-1923) عن غزة فسر المستشرق الأمريكي ريتشارد غوتهيل في مقدمته الأهمية الإستراتيجية للمدينة قائلاً إنها “نقطة التقاء للقوافل التي كانت تنقل بضائع جنوب الجزيرة العربية والشرق الأقصى إلى البحر الأبيض المتوسط، ومركز توزيع هذه البضائع إلى سوريا وآسيا الصغرى وأوروبا، وهي كذلك همزة الوصل بين فلسطين ومصر”.
عسقلان عقرون ما من شك أن العداء الشديد بين شعوب المنطقة يستمد جذوره من وقائع التاريخ العميق ومرجعية المعتقدات المتناحرة التي ميّزت مختلف الحٍقب.
فالحرب الإجرامية التي يشنها كيان الاحتلال على شعب فلسطين في غزة وفي باقي الأراضي المحتلة مستهدفا مقوّمات الحياة الإنسانية هي حرب إبادة جماعية واضحة المعالم واستعادة للتاريخ التوراتي القديم.
فقد جاء في الإصحاح الثاني من كتاب العهد القديم من سفر النبوءات: عاموس (Amos):
وَأَقْطَعُ السَّاكِنَ مِنْ أَشْدُودَ (أسدود)، وَمَاسِكَ الْقَضِيبِ مِنْ أَشْقَلُونَ (عسقلان)، وَأَرُدُّ يَدِي عَلَى عَقْرُونَ، فَتَهْلَكُ بَقِيَّةُ الْفِلِسْطِينِيِّينَ قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ.
إرميا (Jérémie):
لِأَنَّ غَّزَةَ تَكُونُ مَتْرُوكَةً، وَأَشْقَلُونَ لِلْخَرَابِ.
أَشْدُودُ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ يَطْرُدُونَهَا، وَعَقْرُونُ تُسْتَأْصَل ُ.
وَيَكُونُ سَاحِلُ الْبَحْرِ مَرْعًى بِآبَارٍ لِلرُّعَاةِ وَحَظَائِرَ لِلْغَنَمِ. وَيَكُونُ السَّاحِلُ لِبَقِيَّةِ بَيْتِ يَهُوذَا.
عَلَيْهِ يَرْعُونَ.
فِي بُيُوتِ أَشْقَلُونَ عِنْدَ الْمَسَاءِ يَرْبُضُونَ، لِأَنَّ الرَّبَّ إِلَهَهُمْ يَتَعَهَّدُهُمْ وَيَرُدُّ سَبْيَهُمْ .
ويستعيد الكيان اليوم هذه النبوات التي جاءت في التاريخ القديم ليجعل منها حلم العصر الحديث وهدف المستقبل القريب كي لا يستمر الفلسطينيون وتُمحى ذاكرتهم أو يصيروا خدما وعبيدا لأنظمة الذل والعار.