بقلم أحمد الحمروني
شرّفني بعض الكتّاب مشكورين بتحرير مقدّمات لكتبهم، فصرت كلّما هممت بالكتابة لأحد أتذكّر نوادر بعض مقدّمي كتبي وكتب بعض أصحابي دون أن أنسى فعالي مقدّما لكتب غيري.
كتابي الأوّل مجموعة مقالات بعنوان “ثلاثيّات ثقافيّة” (1983) نصحني بجمعها ونشرها عزّ الدين المدني، وقبل اقتراحي عليه بتولـّي تقديمها، فانتهى بي الأمر إلى كتابة التقديم بنفسي وقراءته عليه والنجاة بإمضائه بعد مشاق التنقّل من بعيد والانتظار الطويل طول جلسته مع محمد كوكة المخرج الكبير وبعد سابق اتّفاقنا على الموعد.
وكتاب آخر بعنوان “تستور/وثائق ودراسات” (1999) قدّمه سليمان مصطفى زبيس، رحمه الله، دون أن يقرأه، إذ وقف عند ذكريات طفولته فيها حتّى اضطرت إلى إضافة جملة أخيرة لربط ذكرياته بكتابي.
وكتابي “تستور/المالوف والمهرجان” (2003) قدّمه فتحي زغندة بفقرة لا تملأ صفحة، وكان قادرا على التوسّع والإضافة بحكم رئاسته للجنة التحكيم لسنوات متتاليات.
وكتابي عن “حبيبة مسيكة/حياة وفنّ” (2007) قدّمه المنصف شرف الدين، رحمه الله، بفقرتين متسرّعتين من نوع ما يحدّثك به عنها في لقاء عابر، وكنت أنتظر منه بعض التحقيقات والزيادات لو قرأ الكتاب وميّز بين تقديم لكتاب وبين مقال لجريدة.
وكتاب آخر عن “الهجرات الأندلسيّة إلى البلاد التونسيّة” (2009) قدّمه محمد نجيب بن جميع بمقالة موثّقة ومفصّلة عن تاريخ الأندلس والأدب الأعجمي، ربطها بكتابي بفقرتين في البداية والنهاية، فتحرّجت من سؤاله إن كان نشرها من قبل، واعتبرتها إضافة مفيدة لكتابي وللقارئ.
وكتاب “خمسون مدينة تونسيّة” (2012) قدّمه محمد حسين فنطر بعد أن فاجأني بتصحيحاته وملاحظاته على هامش النسخة المرقونة وكأنّه يحقّق نقيشة، واشترط عليّ تنفيذها قبل تمكيني من نصّ التقديم. وأتذكّر قوله في جلستنا المقتطعة من وقته الثمين : “هل يرضيك أن يحرّف أحد اسمك؟
كذلك ماسينيسن وليس ماسينيسا”.
ومثله في العناية المنجي الكعبي في صنعه بكتابي “حيرة مؤمن مع القرآن” (2021) إذ خصّه بمقدّمة نقديّة طويلة مناقشا إياي في مسائل خلافيّة وموصيا باحترامها حرفيّا بما فيها عنوانها كما شاءه “قرآنيّات معاصرة”.
ولا أنسى الآخرين من المقدّمين وقد ناهزت إصداراتي الخمسين بفضل الله، إذ بذلوا الجهد والوقت لإيفاء كلّ إصدار حقّه. فلهم أجدّد شكري وتقديري معتذرا عن عدم ذكر أسمائهم مراعاة للقرّاء.
ولا أنسى بالخصوص محمد اليعلاوي، رحمه الله، عندما اكتشف سابق اهتمامي بإبراهيم الرياحي فعبّر عن سروره بكتابي عنه في تقديمه له (1996)، وعندما استغرب اطّلاعي على قائمة المصادر والمراجع بطول خمسين صفحة من كتابي عن “الشمال الغربي التونسي/فصول ومراجع” (2006) الذي قدّمه مبتهجا بصدفة تلاقي ثالوث من نفس الجهة، أنا وهو والناشر محمد صالح الرصاع.
وقد تكرّرت تلك الصدفة من دون شائبة جهويّة، مع نفس الناشر ومقدّمين آخرين.
واليعلاوي يذكّرني بثالثنا الجيلاني بن الحاج يحي، رحمه الله، عندما استغرب هذا نقد ذاك في التقديم لكتاب “العادات والتقاليد التونسيّة” لمحمد بن عثمان الحشايشي فرد الصديق على الصديق مبتسما : “يا جيلاني، ألا تعرف أنّ ذرّة فلفل أكحل تطيّب الطعام؟”
هذا، وقد طال انتظاري لصدور الجزء الأوّل من كتابي “إشراقات” بتقديم كتبه جلّول عزّونة يصلح أن يكون عنوانه : “الكاتب كما عرفته” وليس : “الكتاب كما قرأته”.
وسيطول انتظاري أكثر بحساب السنين لتقديم نبيل خلدون قريسة للجزء الثاني منه إلاّ أن يقرأ هذا فيعجّل.
وقد سبق أن عرضت “أسواق الأشواق” على توفيق بكّار لكلمة تقديم، وتكرّرت الزيارات طيلة سنوات حتّى مات.
وكأنّه، رحمه الله، لا يريد أثرا للمسعدي.
وشريكه في الاهتمام بأديبنا الكبير محمود طرشونة الذي ابتدأ موضوع التقديم معه، قبل صاحبه، ثمّ عاد إليه فأضاع صاحب مؤلّف “مولد النسيان” النسختين القديمة والجديدة، وعشريّة من العمر.
فهو أيضا لا يريد امتدادا للمسعدي ليبقى كالعقد الفريد ويتيمة الدهر. ومن مطالعاتي لمقدّمات الكتب، وقد عرضت منها المئات طوال نصف قرن في الصحف والمجلاّت، وبالأخصّ في ملحق “بلادي” الثقافي أوّلا وملحق “الشروق” الصيفي أخيرا، ومن عروضها بقلمي، ومن مقدّماتي لقرابة عشرين كتابا، من كلّ ذلك اتّضحت الصورة واستقرّ الرأي فصغت شبه “نظام داخلي” يضبط قواعد فنّ تقديم الكتب.
وفي تقديمي لكتاب علي مبزّعيّة “تأمّلات وأفكار” (2014) بيّنت قيمة التقديم كإحدى عتبات الكتاب، ومبرّرات اختيار المقدّم، وشروط التقديم ومحاسنه وعيوبه.
وقصدت بكلّ ذلك خدمة المؤلّف والناشر والطابع والبائع والقارئ في إطار منظومة إنتاجيّة أو صناعة ثقافيّة.