بقلم أحمد الحمروني
كثيرا ما نأسف لوضعنا بعد عشريّة سوداء من الثورة “المجيدة”، لا رحم الله المتسبّب فيها من الداخل والخارج، فنتحسّر على الشباب العاطل والكفاءات المهمّشة، ونتذكّر جيل الأمس الذي بنى دولة الاستقلال بروح وطنيّة وقيم أصيلة رافعا شعار “الصدق في القول والإخلاص في العمل”.
لقد راهن بورقيبة المفكّر على “المادة الشخماء” أي العقل التونسي ورأس المال البشري في بلد قليل الثروات والموارد، فعوّل على التعليم والثقافة والإعلام لمقاومة الجهل والخروج من التخلف والقضاء على مخلفات الاستعمار.
خطّط لمنظومة برامج، وتخيّر لتنفيذها أبرز الكفاءات : محمود المسعدي في التربية القومية، والشاذلي القليبي في الشؤون الثقافية والأخبار، وغيرهما في المجالات الأخرى كالصحة والسكن.
وهكذا شمل البناء والتشييد، في إطار ما أسماه بالمعركة الكبرى، الأرياف حتّى توفّرت في كل قرية مدرسة ولو بقسمين ومستوصف ولو بطبيب أسبوعي، واستعان حتى بالأجانب مؤقّتا ريثما يتخرّج من المعهد ومن الجامعة الفتيّة من تحتاج إليه المسيرة التنموية من الرجالات في مختلف المجالات.
وكأنّالمجاهد الأكبر يوجّه رسالة ضمنيّة إلى فرنسا مفادها أننا جديرون بالاستقلال ومعوّلون على أنفسنا بأيد ممدودة للتعاون الندّي ذودا عن الكرامة وحرّية القرار.
وضع المسعدي خطة بعنوان ديمقراطية التعليم، أقامها على إصلاحه وتوحيده بعد عقم التعليم الزيتوني، فجدّد البرامج والكتب المدرسية، وساعد أبناء الفقراء على الدراسة باسم “التضامن الاجتماعي”، ونسّق مع زملائه حملات تلقيح ورعاية وإرشاد في حفظ الصحة، وغير ذلك في مجال الرياضة وكذلك السياحة والفلاحة والإسكان.
وكانت الإذاعة ومن بعدها التلفزة من أدوات التوعية المدنية والترقية الاجتماعية بالبرامج وحتى بالأغاني والمسرحيات بالخصوص.
وهنا يتكامل مشروع المسعدي مع مشروع القليبي ضمن الرؤية البورقيبية رهانا على التثقيف الجماهيري بنشر دور الثقافة وتأسيس المهرجانات وتجهيز المكتبة المتجوّلة والسينما المتجوّلة، وغير ذلك كثير نسيناه.
وتطول القائمة لو ذكرت الأسماء، على أنّي لا أنسى، ما بين التربية والثقافة، عبد القادر المهيري ومحمد العروسي المطوي وسليمان مصطفى زبيس ومحمد المرزوقي ومصطفى الفارسي والمنصف شرف الدين وصالح المهدي والزبير التركي ومحمد مزالي والبشير بن سلامة، واعتذر للآخرين.
فهؤلاء وأمثالهم ساهم كلّ في ميدانه في وضع التشريعات وتكوين اللجان ورصد الاعتمادات ورسم الخطط للعمل الإداري والميداني مستفيدين من الدعم المطلق ومعوّلين على خبراتهم بالتكوين والتجربة ومستعينين بالقادرين الثقات من أهل الذكر وخاصة مزدوجي اللغة والثقافة، من الوزير ورئيس المصلحة إلى الوالي والمعتمد.
هذا كلّه تفصّله وتوثّقه كتب التاريخ الثقافي لهذا البلد الصغير في الخريطة والكبير في العالم على النحو الذي ساهمت به، وهو قليل من كثير، مع آخرين مثل ما كتبه غيري عن تاريخ الكتاب والنشر وعن الإسهام التونسي في تحقيق التراث وعن حصيلة أعمال الجهات المهتمّة بالتراث وعن رصيدنا من الإنتاج الأدبي والفكري والفني، بما في ذلك المسرح والسينما.
إنّما يعنيني من هذه الإشارة التذكيرية السريعة والمقصّرة ملاحظة أنّ ذلك الجيل الذي أعطى ما أعطى للوطن قد أخذ ما أخذ من الوطن، وتصرّف بالأيدي المطلوقة الممدودة بلا رقيب ولا حسيب، واستغلّ الفرص والفراغ لتكوين الثروة المنعكسة صورتها على المنازل الفاخرة التي شيّدوها ولضمان مستقبل أبنائهم وأحفادهم بالدراسة حتى في الخارج وبالتوظيف السريع في أهم ّ المناصب، وكلّ ذلك بفضل العلاقات وفي كنف المسؤوليّات.
وهكذا لم يبق معنى للكلام التمجيدي الذي يظهرهم بمظهر المناضلين المضحّين والوطنيين الغيورين. أحدهم، خلال تولّيه للمعهد القومي للآثار والفنون، طبع جواز سفره بثلاث وخمسين خرجة بعنوان “مهمّة في الخارج” تمتّع فيها مع النقل المجاني بمنحة التنقّل.
والآخر، خلال تناوبه مع زميله على إدارتي المسرح والسينما أو زميله في إدارة الآداب، طبع أكثر من كتاب على نفقته وباعه لوزارته.
وغيرهما أدرجه في برنامج البكالوريا كالغربال الدقيق.
ومن قصد منهم الإذاعة فتحت له أبوابها ليقول ويكرّر ما شاء من الحديث والتخريف.
والشهرة مجلبة للمال والجاه، فضلا عن الجوائز والأوسمة. وكلّه من المال العام أو من مال الرئيس كما غنّى صالح الخميسي بصفته المتصرّف الأكبر من جملة صفاته.
وإنّما الوطنيّ الحقّ هو الذي يخلص في واجبه بلا طمع راضيا بالهمّ الأزرق في هذا الظرف المقلق.