بقلم : عبد الحليم المسعودي
سينوغرافيا الإغراق والاستغراق
مسرح فاضل الجعايبي مسرح لا يُحبّذ تدخل أي نوع المتمّمات التقنية القادمة من فنون أخرى كفن السينما وفن الفيديو وتفرعاته التصميمية والتشكيلية. مسرح يعوّل في احترافيته العالية على الإمكانيات الداخلية للمسرح نفسه وفي مقدمتها الإنارة والتقشف في كل ما من شأنه أن يعطل عمل الممثل في المساحة الفارغة… عودنا الإخراج عنده دائما على التعامل مع الركح على أنه ورقة بيضاء لا تتأسس كفضاء إلا بحضور الممثل وعمله. الإنارة والظلمة هما الأدوات النحوية والصرفية الوحيدة لبناء أسلوب العرض وربط إيقاعه وتركيب معانيه دون التفريط في علاقة ذلك بالموسيقى كتجريد عضوي مصاحب وفاعل في صياغة هذه الجمالية الإخراجية.
سؤال الأصول عند الجعايبي في المسرح كامن في قيام المسرحة (théâtralité) ولا شيء دونها، لكنها مسرحة باطنية لا تعلن عن نفسها لا بشكل ملحمي ولا باستنساخ تيار جمالي بعينه من تيارات الإخراج، مَسرَحَتُه لا تعلن عن نفسها إلا بشكل مكتوم … إنها مسرحة لا تترك أثرا لها لحظة العرض لأنها ببساطة هي العرض نفسه، ولذلك لا ترى الإخراج تعبيرا عن صنعة أو تقنية أو مهارة يمكن نقلها أو النسج على منوالها إنها خفيّة “كالرّشم” في “صناعة الحسن”.
على الركح، ودوننا والخلفية المتحركة لصورة الشاطئ البحري بأمواجه، لا شيء يدل على قيام سينوغرافيا بمعناها الملموس حتى بالنسبة للنظام الإخراجي عنده بمسحته الأرشيتاكتونية (الجدار الخلفي ووظائفه المتاهية). فلا شيء فوق الركح غير طاولة كراسي مقلوبة. مشهد بلاستيكي في غاية البساطة يكاد يكون تجريديا بلا عمق ولا مرجعية بعينها. الطريقة التي تم فيها تنصيب هذا الأثاث المقلوب يحيل مباشرة إلى دلالة المكان القفر المهجور ليس بعيدا عن تلك الدلالة التي تذكرنا بـ “عشاق المقهى المهجور”، لكنه مقهى شاطئ في قلب الشتاء، -ولا غرابة أن المسرحية استندا للتلاوة القاضية في الاستنطاق الأول كان بتاريخ 27 جانفي 2024- لا يبشر بأن شيئا طارئا سيحدث. تكثيف هذه اللامبالاة الدلالية وهذه الكروماتيكية الباردة شيء غير مألوف في إخراجات الجعايبي الذي عادة ما يفتك بالمتفرّج من أول مشهد في أعماله المسرحية الماضية… إن هذا الأثاث المتواضع (الطاولة وبعض الكراسي) سيتحول طوال العرض إلى إشارات مكانية من شاطئ مهجور إلى مكتب تحقيق، ومن مكتب تحقيق إلى مكان ما من أمكنة السجن تارة أو مستشفى الأمراض العصبية.
وضمن هذا المشهد الركحي العام تحتل الشاشة – الخلفية لشريط الفيديو الذي يبث مشهد الشاطئ البحري مكانة أساسية في هذه السينوغرافيا التي أرادها الفاضل الجعايبي استفزازية للمتلقي وقد قامت وهي تستعرض علينا المشهد البحري في حالاته المختلفة على مفارقة عجيبة بين الطبيعي الحقيقي والمزيف انطلاقا من علاقة المسرح نفسه بالطبيعة. و في هذا الصدد يشير جورج بانو Georges Banu إلى وضعية المسرح حين يكون على محك الطبيعة إلى : ” أن مادية الطبيعة في سياقي السينوغرافي المزيف تبدو كأنها استفزاز لأنها تمزق و تربك و تحير المسرح الذي يميل إلى الإنطواء على نفسه كمجال آخر تخييلي بمعزل عن الواقع ضمن تعبيراته الأكثر تحديدا” (16).
غير أن هذا الاستفزاز في هذه السينوغرافيا وهي تعتمد المزيف (شريط الفيديو لمشهد أمواج البحر) لتدلل على الطبيعة، هي في الحقيقة تعمّقُ الشّعور بأن ما يحدث فوق الركح ليس مجرد زيف مسرحي قائم على المحاكاة بل هو الواقع الحقيقي نفسه الذي يحدث أمام أعيننا رغم إكراهات وزيف الفرجة. .
وبالرغم من أن هذه الشاشة -الخلفية شكلت عنصرا نافرا يكاد يكون وجوده مستقلا على حيز الركح الذي تولد فيه الأقوال والأفعال الدرامية إذ يمكن -افتراضيا- الاستغناء عنه كدلالة عن المكان والاكتفاء بمجرد الإشارة إليه إلا أنه أن هذا العنصر سبرهن طوال العرض على عضويته الكاملة وانصهاره البليغ مع حيز الركح بصريا ودراميا من خلال سلسلة من الوظائف الكبرى يمكن تحديها في النقاط الوظيفية التالية:
أولا: إن هذا التنافر البصري البين الذي أشرنا إليه بين ما تمثله الشاشة – الخلفية المحتضنة لحالات شتى لصورة البحر (الهدوء والاضطراب والهيجان) وبين حقيقة الركح المادية ما هو في الحقيقة إلا تنافر سطحي في الطبيعة الحيزين المتجاورين (الشاشة والركح) أي بين اصطناع الحقيقة الفيلمية المسجلة وبين آنية الركح العارية لحظة العرض أمام المتلقي.
ووظيفة هذا التنافر في الحقيقة هي وظيفة تكاد تكون تغريبية لأنها تفصل حسب رأينا بين الزمن الدرامي لمسرحية “آخر البحر” وهي تنهض بأفعالها وأقولها أمام أعيننا وبين الزمن التراجيدي المستحيل تحقيقه في المسرحية لأنه زمن قديم أركاييكي، أو بلغة موزيس ليفي Moses Lévy “زمن مظلم ” (Temps obscure)وبالتالي فإن مشهد صورة البحر في حالاته تلك تكاد تقوم مقام السّد المنيع الذي يفصلنا عن السردية اليوريبيدية لميديا التراجيدية والميثولوجية. فلا الممثلون قادرون على اختراق هذا الجدار المائي ولا ماء البحر يندلق على الركح ويغمر الصالة. ورغم هذا التنافر وطوال زمن المسرحية تكاد تشعر أن الشاشة التي تبث صورة هذا البحر ليست شاشة وإنما البحر بصورته الآسرة تحوّل إلى حضور حقيقي ضمن علاقة إيقاعه الجدلي مع إيقاع الأحداث وتتطور الأفعال عند الشخصيات. ونعتقد أن هذه الوظيفة تؤسس في هذا العمل المسرحي لسينوغرافيا تقوم على المستحيل.
ثانيا: ويقابل هذا التنافر البصري الذي ذكرنا بين الشاشة والركح حضور تآلف خفيّ متعلق بملكة التلقي عند المتفرج في المسرحية. تآلف من صنف التأثير البصري والنفسي الدائم على المتفرج طوال العرض. لقد عمد الإخراج إلى تشغيل الشاشة طوال الوقت الذي يستغرقه العرض (والذي يقارب أكثر من ساعتين ونصف)، وهي خلفية مائية لامحالة قائمة بجلالة صورة الأمواج المهيبة هادئة أو غاضبة تنفذ إلى لاوعي المتلقي فتأسره مهما قاوم ذلك وتنسيه أنها عنصر اصطناعي. لكن حضور الشاشة-الخلفية طوال الوقت يتحول إلى حقيقة يراها المتفرج بشكل لاوعي فتنطبع باطنيا في وجدانه كأنها حقيقة كلما تقدم العرض، مما يحول لحظة التلقي طوال العرض إلى نوع من “الحلم اليقظ” (Rêve éveillé) على حد تعبير Ernest Bloch (17)، حلم يعاش وبشكل يكاد يكون ملموسا. بل إن توظيف الشاشة بهذه الطريقة تكاد تقترب من طريقة “حلم اليقظة المُوَجّهِ” (Rêve éveillé dirigé) الذي يكاد يقوم بوظيفة علاجية نفسية كما هو حالة الطريقة عند المعالج النفسي روبار دوسواي Robert Desoille وفي سياق هذا العمل فإن “الحلم اليَقِظ” الممكن معايشته من طرف المتلقي في العرض هو رهان من رهانات الإخراج في جعل المتلقي معلق بين حقيقتين حقيقة الصورة الحالمة التي تشكلها الصورة المائية وحقيقة العرض فوق الركح الذي قد ينسى المتلقى أنه مجرد لعب مسرحي. وعليه فإن وظيفة هذه الشّاشة هو خلق عوالم باطنية متخيّلة لدى المتلقى قد يكون موطئها فوق الركح مستحيلا.
ثالثا: إن هذه الاختيار السينوغرافي القائم على هذا التنافر بين الشّاشة-الخلفية وبين الواقعية المادية للركح هو في قلب مسألة المسرحة الخاصة بهذا العمل. فهذا الاختيار يقوم بخلق نوع من الإيهام، لكنه ايهام مزيّف ينشأ عنه أثر في التلقّي يمكن أن نسميه بـ “إيهام الإيهام” أو بعبارة أدق “الإيهامُ المَبْتُور” (une illusion tronquée). وهو ما يعني أنه كلما تم هذا الإيهام رسوخا في ذهن المتلقي يتم تقويضه، وعليه فأن هذا “الإيهام المبتور” هو جزء من هذه المسرحة وغير منفصل عن دور تغريبي، ناهيك أن الإخراج يذكر أثناء العرض أن الشاشة مجرد وهم من خلال تصوير بعض الشخصيات (القاضية أو الطبيب) بصدد الجري على شاطئ البحر.
رابعا: إن الحضور الكثيف للشاشة-الخلفية وأثرها على المتلقي طوال العرض كرّس من خلال حقلها الدلالي السائل أو طبيعته المائية مساحة عاكسة تجعل من الشاشة عبارة عن مرآة مائية تبتلع الشخصيات وتبتلع المتلقي، بحيث أنه من الصعب تشتيت انتباه هذا المتفرج الذي يظل طوال الوقت مشدودا لهذا العرض.
خامسا: ولعل أهم هدف لهذا الاختيار السينوغرافي من خلال توظيف الشاشة الخلفية هو كون تصريف حالات صورة البحر لعبت دور ضابط لإيقاع العرض، فتلك الحالات كانت متساوقة ومتناغمة مع حالات الشخصيات أو طبائع المواقف، خاصة مع الشخصية المركزية عاتقة/ميديا حيث انعكاس أفعالها وحالتها الشعورية والنفسية من هدوء إلى انقلاب قد انطبع بشكل مباشر في حالة صورة حركة أمواج البحر المنتقلة من الهدوء إلى الانفجار الكبير. ولقد تعامل الإخراج في هذا السياق مع المادة الفيلمية لصورة البحر في الشاشة على أساس أنها نوع من تنفيذ لمدونة في كراس موسيقي (Partition musicale) بتنويطها العاطفي والدرامي، بل أن المسرحية كلها بدت كأنها تدوينة لتأليف موسيقي.
وخلاصة القول فإن هذه السينوغرافيا في “آخر البحر” بدت وكأنها أفرغت الفضاء من كل شيء قدر الإمكان لا تقشفا بل لترك المساحة أكثر توغلا في التجريدية رغم الواقعية الحاضرة فوق الركح، تجريدية ذهنية تسمح للمتلقي بالقدرة على الاستغراق الاستبطاني والتأملي للسردية الدرامية المعروضة أمامه وكأنه أمام عمل أوبيرالي ولكن دون غناء. إن بلاغة هذه السينوغرافيا ومرآتها المائية المتموجة هي سينوغرافيا قائمة على وظيفة تجاه المتفرج وظيفة مزدوجة لإغراقه في الدراما واستغراقه فيها للتفكر … إنها باختصار شديد سينوغرافيا التنويم (l’hypnose) للاستيقاظ باطنيا كما في الحلم اليقظ.
(يتبع)
الهوامش والإحالات
(16) – Georges Steiner, Les Antigones, Folio/Gallimard, Paris 1986, p, 219.
(17) – Ernest Bloch, Le principe Espérance, I, Gallimard, Paris 1976, p, 125.